رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات الجد «أرماندو».. نجا من معركة العلمين ليروي ويلات الحروب (حوار)

أرماندو
أرماندو


توقف الزمن عِند العام 1942، كأن الكرة الأرضية ترفض الدوران، وكأن الرقيب «أوريتي أرماندو» المقاتل في الجيش الإيطالي، لم يبرح منطقة العلمين في مصر؛ عائدًا ناجيًا إلى موطنه بعد معركة كانت مشاهدها الدموية مُرعبة لصاحب السبعة عشرة عامًا.

ما كانت الحرب خيارًا للصبي الإيطالي، إذ اتجه نحو الجيش ليتعلّم حرفة تُعينه على الحياة؛ فوجد نفسه مُقاتلًا في إفريقيا؛ تُزهق أمامه حياة الآخرين، يُشاهد «وحشية الإنسان»ـ كما يقول.

حكايات الجد «أرماندو» في صحراء مصر قبل 78 عامًا؛ وثّقها الحفيد «ستيفانو» في كتابه عن معركة العلمين؛ لينقل لبني البشر ويلات الحروب التي ما زالت جثامين ضحاياها تحت رمال المعركة؛ جوارها مُخلفات حروب تنفجر لتقتل أبرياء من مصر حتى وقتنا هذا.

«الدستور» التقت «ستيفانو» عبر برنامج المحادثات عن بُعد «زووم» في مقابلة ترجمها لنا الباحث المصري في الشأن الإيطالي أسامة فوزي، كشف خلالها تفاصيل ما جرى.. من إيطاليا إلى مصر.

يروي الكاتب الإيطالي حكاية «الجد المقاتل في الحرب العالمية الثانية» قائلًا: «جدي هو أحد الناجين من الحرب في معركة العلمين 1942، منذ الصِغر كان لديه عشق للمیكانیكا. كانت في ذلك الوقت مستخدمة جدًا في إیطالیا بالجیش. وكانت لديه الرغبة في تعلّم حرفة؛ وعندما بلغ 17 عامًا التحق متطوعًا بالجیش الإيطالي. كان ذلك في العام 1940، وبعد شھور قليلة بدأت الحرب العالمیة الثانیة. بعد قلیل وفي الوقت الذي كان یدرس بدورة المیكانیكا بالجیش؛ وجد نفس مُحاربًا في إفریقیا».
سافر- والحديث على لسان الحفيد- من نابولي إلى طرابلس على مركب حربي اسمھا «كونتي روسو». 

التحق «أرماندو» بالجیش لكي یتعلم المیكانیكا؛ ومع اندلاع الحرب لم یستطع تعلمھا ووجد نفسه فى مواجھة حرب. كان في فرقة المشاة المیكانیكیة التابعة لمدینة ترینتو (شمال إیطالیا)؛ ولذلك كان یحارب في الصفوف الأولى.

وبعد وصوله إلى طرابلس وجب عليه السیر على قدميه لكي یصل أرض المعركة؛ وبنى مع زملاؤه معسكرًا لاحتیاجاتھم من الغذاء والمیاه.. الجیش الإیطالي في ذلك الوقت لم یكن على قدر التدریب المطلوب وعلى قدر الاستعداد للحرب.

«المقاتل الصغير» في حرب لا يطيقها

«التحق جدي بالجیش لیتعلم حرفة ولیس من أجل أن یُحارب.. تواجد وسط صوت المدافع والھاون والقنابل في عمره الذي لا یتعدى 17 عامًا. ورأى جثث زملائه.. رأى وحشیة الإنسان البشري في ھذه السن الصغیرة؛ وكذلك وحشیة الحرب».

«لم یكن لديه الرغبة أن یحكي مظاھر تلك الحرب ووحشيتھا، ولكن حدث أنني أثناء دراستي بالمدرسة كنت عاشقًا للتاریخ؛ وطلبت منه أن یروي لي مظاھر الحرب لأنني كنت أعمل على أبحاث.. ھو كان لديه ورشة حدادة صغیرة- آنذاك- وفي أیام ممطرة لم یذھب للورشة فیھا، كان یكتب حكایاته».

«وجدته مُتأثرًا ویبكي أثناء الكتابة راجعًا بالذاكرة للخلف، كنت أنا من شجعته للكتابة من أجل دراستي بالمدرسة؛ فأنا كنت عاشقًا لمثل ھذه الحكایات، ففي سنة 2000 قدمت أول بحث ليّ مخصصًا لحكایات جدي؛ وكنت في مرحلة الثانویة.. قدمته لأساتذتي ولباحثین في التاریخ؛ وشجعوني على الاستمرار لجمع حكایات جدي»، يقول «ستيفانو».
 

يواصل الشاب: «عندما كان جدي على قید الحیاة؛ وعدته بنشر الحكایات على مستوى دولي؛ وفي كل إیطالیا؛ لكن التكاليف لم نكن نتحملھا في ذلك الوقت من أجل النشر؛ فخاطبت كثیر من دور النشر على أمل أن تنال الكتابات إعجابھم ویتمكن البعض من التمویل في النشر من أجل ألا تضیع حكایات جندي كان عمره 17 عامًا ويُحارب في إفريقيا.. لكن توفي جدي في عام 2005 قبل أن تُنشر الحكايات.. لكنني نجحت في عام 2018 في نشرها في كل إيطاليا وعلى مستوى عالمي.. حملّ الكتاب اسم (من فتى بورشة حدادة إلى معركة العلمین) وضم صورًا نادرة للجد المقاتل من صحراء العلمين أثناء المعارك بصحبة زملاؤه، إضافة لرسم تخطيطي لموقع المعارك والمواجهات».
 

 

البحث عن رفاق المعركة



ذكر الجد في حكایاته للحفيد أسماء بعض أصدقائه: «بحثت عن بعضھم فوجدت صدیقه بانفیلى بیترو؛ كان معه في الخنادق (بالعلمين) وفي الفرقة الحربیة؛ فعندما كانت تحدث غارات كانا یتوجھا معًا للخندق للھروب.. وتمَّ تكریم صدیقه بانفیلى بیترو من المارشال الألماني كیتل.. وجدت أخته وحكت ليّ عنه، وكان موقعه في رومیل. كانت متأثرة عندما تحدثت إلیھا هاتفيًا حیث تذكرت شقيقها.. أرسلت ليّ بعض الصور لأضعھا بالكتاب.. إیطالیا كانت تُحارب بجانب ألمانیا فكانا من ضمن دول الحلفاء».
 

 

«لم يكن المقاتل بعيدًا عما يدور في إيطاليا، بعد أن توصل لصحيفة (البروجریسو إیجیتسیانو) التي كانت تصدر في مصر باللغة الإیطالیة؛ وكان یقرأھا في أوقات ھدنة المعارك، قرأ ذات یوم مقالًا عن خط (جوستاف) حیث دخل الأمریكان منطقة مونتي كاسیلو بمدینة فالیداوستا، وھو منطقة عسكریة خاصة بالجیش في إیطالیا، وقاموا بقصفھا بشكل كامل. ھذه البلدة التي توجد وسط إیطالیا جنوب العاصمة بعشرین كیلومترًا، كانت بلدة جدي. كان يقرأ المقال وهو لا یعرف إذا ما كانت عائلته لا زالت على قید الحیاة أم لا.. حالیًا تمَّ بناء المكان تكریمًا للضحایا كمزار ونصب تذكاري، وبجواره كذلك نصب أخرى للألمان والإنجلیز الذین سقطوا» ـ يروي الحفيد.
 

 

مصر تدفع الثمن حتى الآن



لا يخفى عن «ستيفانو» أن ضحايا مصريين يتساقطون أيضًا في العلمين حتى الآن جراء هذه المعركة: «أعرفھا كمنطقة خطرة من مخلفات الحرب، فأنا ومعي باحثین من خلال مؤسسة كنا سنأتي للعلمین لكي نجمع بقایا الحروب والبحث عنھا تحت الرمال.. سنبحث أيضًا عن بقایا الجنود وأدواتھم الحربیة. لم تتحقق ھذه البعثة حتى الآن لأسباب منھا جائحة كورونا. فالآف من الجنود الإیطالیین والألمان والإنجلیز مدفونین تحت الرمال في الصحراء.. ھي منطقة تحتوي على أشیاء خطرة كالألغام.. سوف نستخدم الأجھزة المعتادة مثل أجھزة الكشف عن المعادن».

أحلام زيارة أماكن خطاها الأجداد، ما زالت تراود الشاب الإيطالي: «زیارة مصر تراودني دائمًا. أود أن أزور الأھرامات والآثار المصریة القدیمة؛ فأنا مھتم بالتاریخ. أرغب أن آتي في أسرع وقت ممكن ولكن بسبب الجائحة لم نعرف متى نأتي لعمل بعثتنا لزیارة تلك الأماكن التي وضع جدي قدميه علیھا».
 

رسالة الحفيد.. الحروب تُظهر وحشية الإنسان

انتقلت ويلات الحروب من مشاهد عايشها الجد في أربعينيات القرن الماضي، إلى رسالة يُواصلها الحفيد  لحث بني البشر على إخماد نيران شرورها: «جدي حسب حكایاته كان لا یؤيد الحرب مطلقًا. فھو أراد أن یحكي بعد خمسین عامًا لكي یوضح للأحفاد ما معنى كلمة الحرب. إنني أشكره لأنني نقلت لأبنائي معنى الحرب. فھذه الكلمة سیئة جدًا. ھذه الكلمة نشأت مع وجود الإنسان على الأرض. ھي وسیلة للدفاع وكذلك للإھانة. الشيء الإیجابي الوحید للحرب ھو تحقیق السلام والتوازن والرخاء. لكن عدا ذلك هي شئ مُقزز یسبب اشمئزاز بالموت ویُظھر لنا وحشیة الإنسان».