رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ظلال القرآن «3-3»


من أنصفوا سيد قطب وظلاله قالوا إنه اتبع أسلوبًا فريدًا فى التفسير لم يسبقه إليه أحد إذ إنه اهتدى إلى أن القرآن يرتبط كله بوحدة عضوية.. تمامًا كما ترتبط أبيات قصيدة الشعر بوحدة موضوعية، فالسورة القرآنية هى نسق كلى ومتكامل تتكون من:

مقاطع وعناصر وأفكار ثانوية أو لقطات ومشاهد تخدم النص ككل وهى تشكل وحدة تصورية، أو فكرة شمولية، أو مشهدًا متكاملاً حسب طبيعة النص القرآنى.

«فى ظلال القرآن» وفقًا لسيد قطب هو فى الواقع محاولة جادة لقول هذا التصور النسقى، فنجد سيد قطب يفسر السورة القرآنية الكريمة تفسيرًا يظهر منه تناسق وانسجام عناصرها ومكوناتها.

وضع قطب مقدمة عامة لتفسيره شغلت حوالى ثمانى صفحات من الصفحة 11 إلى الصفحة 18، وبعدها بدأ فى تفسير سورة الفاتحة، وذلك دون أن يقدم للجزء الذى يعنى بتفسيره، مما يجعل القارئ يعيش مع المقدمة وتفسير سورة الفاتحة على أنهما المدخل الرئيسى أو المذكرة الشارحة لمنهجه فى تفسيره «فى ظلال القرآن» إذ إنه وضع فى مقدمته وفى رؤيته للفاتحة الأسس الفكرية التى قام عليها هذا التفسير، ثم شرع بعد ذلك فى تناول كل جزء من أجزاء القرآن الكريم على حدة.

ولأنه يؤمن كما قلنا آنفًا بأن القرآن يرتبط كله برباط واحد لذلك فإنه كان يقدم للجزء الذى يعنى بتفسيره بمقدمة يستعرض فيها طبيعته وخصائصه، كما يحاول فيها أن يربط بينه وبين الجزء الذى سبقه، وقد تقصر المقدمة التى يضعها قطب لكل جزء أو تطول، إلا أنه كان حريصًا على أن يضع فى مقدمته التذكير بما ورد فى الجزء السابق كنوع من الربط بين أجزاء التفسير، ثم ذكر مكونات الجزء، والحديث عن طبيعة وخصائص السور أو الآيات التى يتكون منها، كذلك الشأن بالنسبة للسورة فإنه يقدم لها بمقدمة يتناول فيها المحور الذى تدور عليه وموضوعه الذى تتناوله، ويشير فى بعض الأحيان إلى بعض جوانب الإعجاز فيها ويلمح إلى جمالية أسلوبها، كما يعرف فيها بالأجواء العامة التى نزلت فيها السورة، والظروف والملابسات التى واكبت نزولها.

ومن ثم فإن مقدمة السورة فى الظلال تعتبر تعريفًا بها وبأهم خصائصها، وغالبًا ما يختم سيد قطب تفسيره بخاتمة قصيرة تتميز بلغة أدبية شفيفة حالمة يربط فيها بين أولها وآخرها، ويوضح فيها تناسق وتناغم الخاتمة مع الموضوع الأساسى للسورة.

إلا أن نفسية الشاعر تظهر واضحة جلية عندما يتحدث قطب فى تفسيره عن الصور والمشاهد والتراكيب الحركية، ومن أجل ذلك استخدم ألفاظًا للتعبير عن أفكاره لم تكن مطروقة أو مستخدمة فى التفاسير من قبل مثل المقطع - القطاع - الدرس – المشهد ـ الموسيقى ـ المارش العسكرى الموجة - الموجات - اللمسة – الجولة ـ الدفقة ـ الشعور ـ المشاعر ـ الصورة ـ الحنان ـ السكون الغامر.

أما التراكيب اللغوية فقد ظهر فى تفسيره اهتمامه بنسق لغوى أو بالأحرى قاموس خاص لا يخرج إلا من قريحة الأدباء، وقد لفت نظرى منذ قرأت الظلال بعض العبارات التى لم أجد لها مثيلاً فى تفسير آخر مثل مقدمته عن سورة الضحى التى قال فيها «هذه السورة بموضوعها وتعبيرها ومشاهدها وظلالها وإيقاعها لمسة من حنان، ونسمة من رحمة، وطائف من ود، ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع» إلى أن قال «فلما أراد إطاراً لهذا الحنان اللطيف، ولهذه الرحمة الوديعة، ولهذا الرضى الشامل، ولهذا الشجى الشفيف، جعل الإطار من الضحى الرائق، ومن الليل الساجى، أصفى آنين من آونة الليل والنهار، وأشف آنين تسرى فيهما التأملات وتتصل الروح بالوجود وخالق الوجود، وتحس بعبادة الكون كله لمبدعه وتوجهه لبارئه بالتسبيح والفرح والصفاء وصورهما فى اللفظ المناسب» ولو استرسلت فى شرح أدبيات قطب فى الظلال لما وسعت تلك الصفحات أو اتسعت ولعلنى أضعها فى كتاب قريب إن شاء الله.

ولأن علوم القرآن لم تصل إلى سيد قطب من مصادرها ومنابعها الأصلية فقد حاد به عقله فى كثير من المواضع، وقديمًا قيل: الذى يأخذ العلم من الكتب يقال له الصُحفى والذى يأخذ القرءان من المصحف يقال له مصحفى، وعندما كنا ندرس على أحد أشياخنا كتاب «الاتقان فى علوم القرآن» كان يقول لنا مقالة سعيد التنوخى إذ قال: لا تحملوا العلم عن صُحفى ولا تأخذوا القرآن عن مصحفى.. أى أنه لا يجوز لمن قرأ القرآن دون أن يتعلم علومه من مصادرها وأشياخها أن يقول فى القرآن ما يشاء وكيف يشاء.. وسيد قطب شغب على معاهد القرآن منذ صباه ورفض العلم الدينى ولم يستقم فى معهد أو جامعة يدرس منها الفقه والحديث والتفسير وعلوم القرآن، كما أنه لم يأخذ من عالم أو شيخ معتبر لذلك وقع فى كثير من المآخذ فى تفسيره، ومن ضمن الأخطاء التى وقع فيها قطب والتى نوردها هنا على سبيل المثال إنكاره حديث الآحاد فى العقيدة، وعليه فقد رد بعض الأحاديث الصحيحة ورغم ذلك فإنه أكثر من الأحاديث الضعيفة والموضوعة مثل حديث «فى المال حق سوى الزكاة» فقد رواه الترمذى، وضعفه... إلا أن سيد قطب أخذ به واعتمد عليه فى التفسير.

ومن مخالفاته الخروج عن الفهم السليم لأحاديث صحيحة وآيات واضحة من القرآن الكريم ومسخ معناها كقوله عن «مسخ اليهود قردة وخنازير» «وليس من الضرورى أن يستحيلوا قردة بأجسامهم فقد استحالوا إليها بأرواحهم وأفكارهم» ومثل قوله عن قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ الله مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [ البقرة/243] قال (كيف، هل بَعَثَهم مِن موت وردَّ عليهم الحياة؟ هل… لم يَرِدْ عنه تفصيلٌ فلا ضرورة لأن نذهب وراءه فى التأويل لئلا نتيه فى أساطيرَ لا سندَ لها!.) وسيد قطب هنا يعتبر أن رد الحياة لهؤلاء الذين ذكرهم الله هو من الأساطير التى لا سند لها وكأن القرآن الكريم ليس سندًا عند قطب، وقد خالف قطب المفسرين قاطبةً فى سببِ نزول بعض الآيات واعتمد فى ذلك على رأيه الخاص مثل رأيه فى سبب نزول الآية الكريمة {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ الله أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة/114] فقد قال إنها فى «تحويل القبلة وسعى اليهود لصدِّ المسلمين عن التوجه إلى الكعبة».

وتأويله برأيه الذى لا سند له حين قال عن عذاب قومِ لوطٍ بالحجارة إنها «انفجار بركانى» وهذا تأويل عجيب لم يقل به أحد قبل قطب، وقد أخذ عليه علماء الأصول قيامه بتغيير بعضِ الألفاظ الشرعية إلى ألفاظ غير شرعية كتسميته «الزكاة» ضريبة رغم البون الشاسع بينهما، وتسميته الأحكام الشرعيةَ «القانون».

وحين دخل سيد قطب فى الفقه كان كلامه بغير وجه سديد، كما أنه تحدث عن إجماع وهو ليس كذلك ومن هذا حين كتب أن (العمرة ليست فريضةً عند الجميع) فى حين أنه لا يوجد إجماع بذلك فقد قال بوجوبها الشافعى والإمام أحمد.

وقوله فى تفسيره عمن استنصر بالكفار إنه (خارجٌ مِن الإسلام) وهذا من الغلو ولم يقل بمثل هذا القول إلا الخوارج وبعض مدعى الفقه من المتشددين والتكفيريين.

إلا أننا نستطيع القول بأن بين سيد قطب وتفسير «فى ظلال القرآن» خيط رفيع حتى أننا قد نتوهم أحيانًا أن قطب هو الظلال والظلال هى قطب حيث طبع شخصيته فى الكتاب ووضع نفسه داخل الغلاف.. لا ريب عندى أن الظلال ليست من كتب التفاسير المعتبرة ولكنها خرجت كمجموعة خواطر متطرفة اعتملت فى عقل صاحبها فأفرغها كما قال فى القراطيس، بيد أن هذه القراطيس أخرجت لنا برغبة صاحبها أو بغير أن يقصد ـ كما يقول أصحابه ـ كتابًا كان هو الدستور الأكبر للحركة الإسلامية المتشددة ألا وهو كتاب «معالم فى الطريق» الذى كان «مانفيستو» فى ظلال القرآن أو مانفيستو حركات العنف التى اتشحت بثياب إسلامية.