رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالوهاب داود يكتب: قواعد المحبة والوداع.. درس جوني ديب الأخير


فى واحد من أهم مشاهد فيلمه «the professor»، يوجه النجم جونى ديب «ريتشارد، الأستاذ الجامعى» حديثه إلى نخبة مختارة من تلاميذه، قائلًا ما معناه إننا «فى كل لحظة تمر بنا، نؤلف سطورًا جديدة فى قصة حياتنا، نؤلفها جملة جملة، وكل ما علينا هو أن نجعلها قصصًا جديرة بالقراءة، أو على الأقل لتكن ممتعة، أو مثيرة للاهتمام».

الفيلم كان عنوانه الأصلى «Richard Says Goodbye»، ولكنه تغير قبل بداية عرضه العام الماضى بأيام قليلة، وإن كنت أظن أن العنوان الأصلى أكثر توفيقًا وتعبيرًا عن الفيلم، لكن ربما لعبت اعتبارات أخرى دورًا فى التغيير. أظن أن صنّاع الفيلم أدرى بها، أما مبررات ظنى هذا فتأتى مما أعتقد أنه الرسالة النهائية، أو الأهم للفيلم الذى تدور أحداثه حول أستاذ جامعى يواجه حقيقة أن كل ما بقى له فى الحياة هو ستة أشهر، فيقرر أن يودع الدنيا بطريقته الخاصة، دون ضجيج، ودون ألم، وأن يجعل من درسه الأخير، هو درسه الأفضل، والأهم، والأبقى، وهو الدرس الذى نتابعه على مدى ٩٠ دقيقة، هى زمن الفيلم، والذى نجده أيضًا فى إحدى العبارات الملهمة التى يلقيها ريتشارد على تلاميذه «أنتم هنا لكى تعيشوا حياتكم المقدرة لكل منكم، فعشها كما تحب، أو كما يجب أن تكون، لا تكن مجرد كائن موجود.. عش».

والمتابع لمسيرة النجم جونى ديب السينمائية، يعرف جيدًا أنه ربما كانت هذه واحدة من المرات القليلة التى يمكن أن تراه هو شخصيًا على الشاشة، كرجل عادى، يحب، ويكره، ويتألم، ويسب، ويلعن، ويرقص مذبوحًا من الألم، ليس ساحرًا، ولا قرصانًا مجنونًا، ولا صاحب مصنع شوكولاتة ملتبس، ليس مصاص دماء، ولا قاتلًا، ولا رجل عصابات، ولا أى شخصية كرتونية خيالية أخرى.. هنا جونى ديب يلعب دورًا يشبه جونى ديب نفسه، بأزماته مع شركات الإنتاج، واتهامات الاستغلال، وغيرها من المشاكل التى أضعفت من نجوميته، ودفعته للجوء إلى نوعية الأفلام القليلة التكاليف، وربما لهذا كان اختياره فيلم «ذى بروفيسور» على وجه التحديد، حيث يمكنه أن يؤسس قواعد الوداع، أو كيف يمكنك أن تقول وداعًا لكل ما أحببت، وما ارتبطت به، وما تقيدت به طوال حياتك، فهو هنا بمجرد علمه بما تبقى له فى الحياة، يقرر تجاهل جميع قواعد المجتمع الخانقة، والتحرر منها، ومن الحياة، حتى إنه عندما تسأله زوجته التى تخونه مع رئيسه فى الجامعة: «ماذا حدث لنا؟»، يجيبها مندهشًا، وهو يقترح نخبًا بعيون حزينة ودامية: «ماذا حدث لنا؟!.. الحياة.

هكذا.. هى الحياة، لا هزيمة مطلقة، ولا نصر دائم، دائرة من الأوهام والتصورات، حكايات تبدأ لتنتهى، وأيام لا تعرف كيف بدأت، لكنك تعرف تمامًا متى وكيف تنتهى.. مواقف، وقصص، وحواديت، ولكن لا شىء منها يمكن الوثوق به، لا شىء يحمل فى جنباته ضمانات البقاء أو الاستمرار.

يمكنك أن تظن بنفسك الظنون، من حيث الأهمية، والحضور، والتأثير، أو ما شابه من تصورات، لكنك تظل مجرد كائن لا تعرف كيف يراك الآخرون؟ ولا كيف يريدونك فى مسيرتهم؟ ما غايتهم من القرب؟ وماذا يتبقى إن طالت المسافات؟ من أين تبدأ المحبة؟ وكيف تتحول الأيام؟

لهذا فربما كان من المناسب هنا أن أعترف بأننى أحببت جونى ديب فى شخصية ريتشارد، أكثر من أى شخصية أخرى قدمها وحققت له جماهيرية طاغية، أحببته وهو يرسم قواعد الوداع بنعومة، وقسوة، وهدوء بالغ، أحببته وهو يكسر كل ما تعارفت عليه المجتمعات من قواعد، وأصول، واعتبارات خانقة، فماذا يعنى أن ترتكب خطأ ما ثم تعيده؟ هل هى نهاية العالم؟

ولهذا فربما كان من المناسب أيضًا أن أعترف هنا بأننى أحب أخطائى، وأعيد تكراراها، مرة واثنتين وعشرًا، لا أتعلم منها، ولا أريد.. أعرف أن فى مثل هذا الاعتراف ما يزعج الكثيرين، أو على الأقل ما يدفعهم للظن أنه مجرد كلام على طريق الاختلاف، لا أكثر ولا أقل، أو للفت الانتباه، فالقاعدة المعروفة التى يلقنها الجميع للجميع، أن الإنسان عليه أن يتعلم من أخطائه، حتى لا يقع فيها مرة أخرى، بينما الحقيقة أن كلًا منا ليس سوى سلة من الأخطاء والمعاصى، من الأفكار والتصورات، الجيد منها والردىء، الخطأ والصواب، وعلينا جميعًا أن نحبها، وأن نتعامل معها كما هى، أن نتعامل مع أنفسنا كما هى، أو كما خلقنا بها.. فما أجمل أن ترتكب الخطأ وأنت عارف تمامًا أنه غلط.