رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المذكرات غير المنشورة لـ«مؤسس صوت العرب» «7»

أحمد سعيد: عبدالناصر لم يكن اشتراكيًا أو شيوعيًا

جريدة الدستور

لم يكن الرئيس جمال عبدالناصر مبالغًا وهو يقول لأحمد سعيد، مؤسس إذاعة «صوت العرب»، أثناء اجتماعه به، ظهر يوم الجمعة 27 مارس 1956، لمدة ثلاث ساعات: «لازم تضع فى اعتبارك يا أحمد إن (صوت العرب) بالنسبة لنا جيش، ويمكن ده أقوى جيش أنا تعاملت معاه فى حياتى»، ولما كان المشير عبدالحكيم عامر حاضرًا فى نهاية هذا اللقاء قال لـ«عبدالناصر» مداعبًا: «طبعا إنت عمال تكبره علىّ». ولهذا كان أحمد سعيد أحد صُناع تاريخ ثورة يوليو، وتأثيراتها التى غيرت وجه المنطقة العربية، وهو ما عبر عنه الصحفى الإنجليزى، ويلتون واين، فى كتابه «عبدالناصر.. قصة البحث عن الكرامة» قائلًا: «المذيع الشاب أحمد سعيد نجم الإذاعة الوليدة التى أصبحت تجسيدًا إعلاميًا لتطور مسيرة القومية العربية».
بل إن رجل المخابرات الأمريكى ويليام إيليس كتب فى عدد يونيو بمجلة «هاربر» البحثية: «إن أحمد سعيد يرى فيه بعض الناس أنه أكثر تأثيرًا من جمال عبدالناصر نفسه»، ولم يكن ذلك يغضب «عبدالناصر» الذى كانت تصله تقارير بهتاف الجماهير العربية لأحمد سعيد كما تهتف له هو نفسه، حتى إنهم أطلقوا على الراديو «صندوق أحمد سعيد»، فكان «عبدالناصر» يشجع نجاحه وشهرته قائلًا له: «أنا يهمنى إنك تكبر، كل ما إنت تكبر أنا باكبر». ولهذا كان يحمل أحمد سعيد فى صندوق ذكرياته الكثير من الأسرار والتفاصيل التى لم يدونها فى مذكراته، وأباح لى بها فى حواراتى الممتدة معه عبر ثلاثين سنة، التى تجاوزت العلاقة الصحفية به إلى علاقة إنسانية، جعلتنى مصدر ثقته كابن وصديق رغم فروق التوقيت، وقد حرصت على أن أنقل ما دونته فى أوراقى الخاصة بلغة أحمد سعيد وتعبيراته، مسلسلة بتواريخها الزمنية، لا بتسلسلها التاريخى، لأنها لم تكن حوارات معدة للنشر، ومن هنا تأتى عفويتها وصدقها، ولهذا فهى تنشر للمرة الأولى لتكون بين أيدى الباحثين والمؤرخين، لعلها تجيب عن بعض الأسئلة حول فترة الخمسينيات والستينيات الحافلة بالأحداث التى قررت مصائر أشخاص وشعوب.
هل يمكننا أن نقول على ضوء وقائع محددة، إن الرئيس جمال عبدالناصر كان يتخذ قراراته كرد فعل أو صدى لأفعال خصومه وأعدائه، وهم قد عرفوا عنه هذه الخاصية النفسية، فكانوا يعمدون إلى استفزازه ليقع فى أخطاء من صنعه تكفيهم عن عجزهم عن إلحاق الأذى به، بعد أن تجذرت شعبيته فى مصر والعالم العربى، بل تجاوزتها إلى شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، فصار ملهمًا لكل ثورات التحرر، مما جعله مصدر خطر كبيرًا على الاستعمار وأعوانه، فلجأوا إلى استثارته عبر الإذاعات السرية بمعايرته بأنه هرب من إسرائيل إلى اليمن، مختبئًا وراء قوات الطوارئ الدولية، فأراد أن يثبت أنه قادر على أن يحارب إسرائيل، فكان ما كان فى 5 يونيو 1967، وقبل ذلك كانت دولة الوحدة المصرية السورية التى حكمها عبدالناصر باسم «الجمهورية العربية المتحدة»، التى كانت مرشحة لأن تنضم إليها دول أخرى مما يعيد التذكير بإمبراطورية محمد على، فكان لا بد من ضرب هذه الوحدة باستفزاز عبدالناصر من «حزب البعث»، ومزايداته التى طالبت الزعيم بمزيد من الاشتراكية، فكان أن رد بقرارات يوليو الاشتراكية التى كانت من أسباب سقوط دولة الوحدة، فإذا كان جائزًا تقييد رأس المال فى مصر، فإن تطبيق هذا القرار على مجتمع تجارى كسوريا يضر الشعب هناك، مما جعله مهيأ للانتقال إلى جبهة الخصوم، وظهر ذلك عندما وقع الانفصال، فلم يتحرك الشعب السورى لإنقاذ دولة الوحدة، وهو الذى حمل سيارة عبدالناصر على أكتافه ترحيبًا به وبقيادته دولة الوحدة.
وقد حذر أحمد سعيد من سلبيات القرارات الاشتراكية، وانعكاساتها السيئة على القوميين العرب الذين يقفون مع عبدالناصر، ويتبنون مبادئ ثورته، وقد استمع إليه عبدالناصر فى لقاء دعا إليه بعض الإعلاميين والمسئولين، ليعلنهم عزمه على إصدار قراراته الاقتصادية التى طلب لها المزيد من الدراسة، حتى يهيئ الإعلاميون الرأى العام لها، ورغم اقتناع الرئيس بوجهة نظر أحمد سعيد، إلا أنه كان مصممًا على قراراته، رغم عدم ملاءمتها للإقليم الشمالى، وهو الاسم الذى كان يطلق على سوريا أثناء الوحدة، مقابل الإقليم الجنوبى، وكان يقصد به مصر، وكانت مهمة أحمد سعيد أن يسوّق للجماهير القرارات الاشتراكية، رغم عدم قناعته بها من ناحية، وشعوره من ناحية أخرى بالمحنة من كلمة «اشتراكية»، ولكنه عاد بها إلى معناها الأصلى من وجهة نظر إسلامية، أو كما يحكى عن ذكرياته عن تلك الفترة: «وجدتنى أعمل حاجتين فى (صوت العرب)، وساعدنى فى ذلك اتجاه إسلامى تدينى عند واحد من المذيعين والمخرجين اسمه إبراهيم مصباح، أنا أعرف اتزانه، قلت ده هو اللى ينفع، فجئت به وشرحت له الموضوع، فرفض فى الأول لأنه فهم، فقلت له: ما هى هتتعمل هتتعمل. ودخل معى فى مناقشات حتى قلت له: (أنا معنديش حد يصلح، أنت أقرب الناس لحمل هذه الأمانة، احملها بمنطقك، أنا عايزك تحملها وأنت رافض). ومن خوفى على الحملة رحت طالع بنفسى فى حملة، فأصبح فيه حملتين، أنا بأعمل أحاديث صغيرة، وهو بيعمل برنامج اسمه (الخبز للجميع)، وتطلع القرارات الاشتراكية ويحدث الانفصال، وتكون هى أحد أسباب الانفصال، وعناصر كثيرة كانت فى خندق عبدالناصر انتقلت لخندق الخصوم، وأخرج عبدالناصر الشيوعيين من السجون وأخذوا مناصب فى الإعلام والوزارات و(أخبار اليوم) وبدأوا يكتبون واستشروا، وكان هذا بغرض التقارب مع الاتحاد السوفيتى، وهو نوع من أنواع اللعب السياسى، لأن عبدالناصر ليس شيوعيًا ولا اشتراكيًا، ولكنه يميل أكثر إلى الضعفاء والفقراء، هذه طبيعته وهذا هو انتماؤه، هو حدد يحكم لحساب مين، كل حاكم يحكم لحساب حد، وضع طبيعى الشيوعيون لا يعجبهم كلامى، فبدأوا حربًا شرسة ضدى، لدرجة أنهم أحيانًا كانوا يوجهون حملتهم على أسلوبى فى الأداء، وأننى لا أعرف ما أفعل، وانتقدوا الأغانى العاطفية التى نذيعها باعتبارها غير مناسبة، فى نظرهم، لإذاعة (صوت العرب)، فقد سيطروا على الصحافة، ودخلوا فى صراع أيضًا مع هيكل فى (الأهرام) من خلال مجلة (الطليعة) ولطفى الخولى، ولكن هيكل كان ماسكهم، إنما عندنا مفيش، وبدأوا يقولون لعبدالناصر: أحمد كذا وكذا، فكان يقول لهم: (مالكوش دعوة به، ابعدوا عنه)، ويدخل فى هذه المحاولات على صبرى حينما كان أمينًا للاتحاد الاشتراكى، وحتى بعد أن أصبح رئيسًا للوزراء أسهم فى محاولة هزى، ولكن علاقتى بالجهاز الرئاسى ما جعلتش حد يقدر يقرب، طالما أنا ناجح فى أدائى. واستمرت الحملة أربع سنوات حتى جاء شهر رمضان 1965 وبدأت أعمل حديثًا آخر خاصًا بالحكم فى الإسلام وعلاقته بالجماهير، وفوجئت بأنور السادات فى يوم من الأيام يطلبنى، وكان رئيسًا لمجلس الأمة وكنت عضوًا، وذهبت إليه، ولم يتبق على نهاية رمضان سوى عشرة أيام، والحديث بيسخن عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم مستندًا لوقائع الحكم النبوى، وحكم أبى بكر وعمر، ومواقف عثمان التى جامل فيها أهله، ومخاطر تلك السياسة، متوجهًا بحديثى لطبقة الحكام، وفوجئت بالسادات يقول لى: إيه الكلام الفارغ ده اللى إنت بتقوله بعد السحور؟. قلت له: كلام فارغ إيه ده كلام كله تاريخ. فقال لى: أنا إمبارح كنت باتسحر عند الرئيس فى بيته وهو قاعد يسمعك.. موش عاجبه الكلام ده، شوف لك موضوع تانى اتكلم فيه بقية الشهر، موش شغلانة، الإسلام مليان مواضيع، يعنى خلاص حكاية الحاكم والمحكوم هو ده الموضوع اللى شاغلك، ثم يا أحمد حط فى اعتبارك إن فيه ناس كتيرة كارهاك وموش عايزاك، كمان هو يكرهك، ده هو اللى ساندك، إلغى.. إلغى.
قلت له: يا سيادة الرئيس، كنا نقول له يا ريس بحكم رئاسته مجلس الأمة، سيادتك أدرى بدورى وقدراتى. قال لى: يعنى إيه؟. قلت له: سيادتك تعلم أننى لا أستطيع أن أتلقى أمرًا خاصًا بـ(صوت العرب) إلا من قنوات معينة، ما أسهل على سيادة الرئيس لو موش عاجباه حاجة إنه يقول لسامى شرف ويرفع السماعة ويقوللى؟!. قال السادات: يعنى كلامى موش مُصدق، وتصدق سامى أكتر منى؟. قلت له: يا سيادة الرئيس القضية موش كده، القضية إن لى قنوات لا يمكن أن أقبل من غيرها أى توجيه. فانفعل وقال: خلاص أنا هخللى سامى يكلمك، وواحد أقل من سامى كمان يكلمك. قلت له: لا يا فندم هو فيه قنوات؟!. فقال: خلاص.
وقام منفعلًا وأعطانى ظهره، بما معناه أن أخرج، وهو غضبان علىّ، وخرجت ولم يحدثنى أحد فى هذا الموضوع أو يطلب منى التوقف، وقعدت أفكر فى هذه المسألة.. هل السادات هو اللى موش عاجبه كلامى للحكام، وأحب إنه يعمل بادرة يرضى بها الرئيس، أو أنه قال للرئيس وقوّمه علىّ؟ طيب وأنا مالى طالما لم يتصل بى أحد من قنواتى، ولكننى ناقشت بعض الحبايب فى الرئاسة، فقالوا لى: ولا يهمك ولا كأنك سمعت حاجة. إلى أن جاء اجتماع مجلس الأمة والرئيس يقول خطبة فيه، وجاءت سيرة الحريات والشعب عايز حريات، وقال عبدالناصر: هو فيه أكتر من أحمد سعيد، أهو قاعد فى المجلس أمامكم، كان يقول فى رمضان ساعة السحور كلام أنا مكنتش مقتنع به، إنما هل أنا طلبت من حد يقول لأحمد بلاش الكلام كده، ما أنا بإمكانى أقول له بلاش الكلام ده. ما تناقشّى الموضوعات دى، لأن أنا لو قلت لأحمد، أبقى بكلبشه، أبقى بلغى القدرات والملكات اللى عنده، والحريات اللى أنا مديها له علشان يبدع وعلشان يؤدى دوره كويس، إنما لو خرج عن الخط الاشتراكى يبقى لى معه حساب تانى.
كلام عبدالناصر معناه هنا أن عليك أن تفهم أنك تستطيع أن تعبر عما تريد بلا خوف طالما أن الخطوط العريضة لأهداف ناصر لم تُمس، وإنما تخدم. وتلاحظ هنا أن عبدالناصر امتنع عليه أنه يتكلم، لكن عليه فى نفس الوقت ضغط يسارى، علشان كده ختم كلامه (لو خرج عن الخط الاشتراكى). علشان كده فيه ناس بتفتكر إن عبدالناصر لما يرتجل بيقول أى كلام، لا.. هو اكتسب خبرات، وبعدين هو يعرف قيمة الجهاز اللى الراجل ماسكه، ولو عايز يمنعنى كان قال لى دون أن يتطوع أحد عنه بإبلاغى، وكنت فى هذه الحالة سأقيّم موقفى، وهذا يصل بنا إلى دور الأتباع والأعوان والحاشية. عايز أقول إن دى إحدى خصائص عبدالناصر.. إنك تاخد حريتك بحيث إنك تبدع دون خوف، لأن من أهم خصائص الرجل الذى يخاطب الناس ألا يكون جبانًا ويحسب حسابات غير طبيعية وغير مرئية وغير موجودة».
سألت أحمد سعيد: كيف تعاملت مع أزمات كبرى كأزمة مارس فى الصراع على السلطة بين عبدالناصر ومحمد نجيب، وأزمة العدوان الثلاثى؟ فأجابنى: «صلاح سالم كان يقوم بهذه العملية كوزير للإرشاد (الإعلام فيما بعد) قال لنا: (صوت العرب) لا علاقة لها بالموضوع، أزمة مارس، علاقتها فقط بالمنطقة العربية، وليس لها شأن بالداخل، وحدث خلال هذه الفترة أن قامت مظاهرات ضد عبدالناصر فى الوطن العربى تتهمه بأنه أمريكانى وضد الإخوان وضد الحريات.. إلخ، فكُلفت بدراسة ما يحدث على الطبيعة، فسافرت إلى دمشق فى زيارة سرية، ولبنان فى زيارة علنية، والبيانات كانت تذاع فى (البرنامج العام) لا فى (صوت العرب) الخاص بمصر العربية لا مصر المصرية، وهو حافظ على هذه الهوية، لدرجة أننا كنا لا نذيع أخبارًا تخص مصر، إعلاميًا ليس لدينا وقت، لأن مشاكل المنطقة وصراعاتها والعمل على تحريرها تشغلنا، أما فى العدوان الثلاثى فقد كانت علاقتنا مباشرة بالدولة قبل وأثناء وبعد ضرب الإذاعة، لأن المعركة كانت إعلامية بالدرجة الأولى ودبلوماسية بالدرجة الثانية، وكانت وجهة نظر عبدالناصر كما فسرها بعد ذلك هى «أستسلم أم لا أستسلم؟»، هنا قيمة عبدالناصر ومزاياه، البطل يجب أن يغلب عليه طابع البطولة عن طابع الحاكم الذى يبدأ يحسب حساباته، غير البطولة ليست لها حسابات، ولما عبدالناصر قال فى يوم من الأيام إنه خايف على السد العالى، بدأت صورته تهتز على الأقل بالنسبة لى، خايف على السد العالى رغم إن فيه أشمل من السد، مصر وصمود مصر اللى نجحك فى 56، لو جالك الإنذار وقلت حاضر، كان انتهى دورك، والعالم قال دول كلاب لا يستحقون الوقوف معهم، لكن إنت وقفت من على منبر الأزهر وقلت: هنحارب.. هنحارب. لأنه فهم إن الصراع مستمر، فبدأ العالم ينتبه ويساعدك، هنا عبدالناصر البطل الذى هدد بأن يضرب بالنار كل من يقترب من مجلس الوزراء ويطالبه بمهادنة المعتدين، أو توسيط أمريكا لإيجاد حل، الأكثر من هذا يأتينى عباس رضوان، من الضباط الأحرار ووزير الداخلية فيما بعد، ويقول لى قبل ضرب محطات الإرسال: حضّر نفسك وشرائطك وشنطة ملابسك، لأن الإذاعة يمكن أن تنتقل إلى الصعيد أو السودان، لأن بريطانيا وفرنسا هددوا بضرب القاهرة والنزول فيها.
إذن الصمود لم يصل إلى أن القاهرة تقاوم، بل الصمود وصل إلى أننا نروح الصعيد أو السودان. إذن نظرية الصمود قائمة عند البطل، وهذه هى إحدى علامات شخصية ناصر، صحيح أنه هُزم عسكريًا وسياسيًا فى حرب يونيو، ولكنها لم تكن هزيمة نهائية، مدنك وجسورك ومصانعك ومدارسك وبنيتك الأساسية سليمة، الهزيمة العسكرية ليست كل شىء، الجيش هو الواجهة العسكرية لمصر، لكن الشعب المصرى لا يقل عن 98 بالمائة من قوة مصر، ولذا فهمها عبدالناصر ورفض كل عروض الصلح، رغم سيطرة الطيران الإسرائيلى على السماء المصرية سيطرة كاملة وضرب مدرسة بحر البقر ومصانع أبوزعبل أمام عجز دفاعاتنا الجوية، فلما طالبنا الاتحاد السوفيتى بحماية سمائنا، اشترطوا شروطًا سياسية واقتصادية، وأن يكون الطيارون روسًا، رفض يسلمها للروس، وصمد وبقى الزعيم، لأن الزعيم لا يمر بانتصارات دائمة، المسألة فيها عقل وكبرياء ومناورة، هذه هى الشخصية الرئيسية لناصر: كبرياء، صمود، صلابة، إصرار على الحلم، وظل يمارس زعامته للمنطقة حتى رحيله، بجمعه الزعماء العرب، ووقفه مذابح أيلول الأسود ضد الفلسطينيين فى الأردن، فمات على صورة البطل الذى يتحرك حتى آخر لحظة ليحلم ويوقظ إرادة شعبه، ويقود العملية السياسية القائمة على تغيير الواقع المصرى والعربى».
سألت أحمد سعيد عن انعكاس صورة عبدالناصر البطل على مساعديه حين يحكم.. كيف كانت؟ فقال: «وضع طبيعى لما البطل وهو يعمل حاكم لازم يتعامل مع عناصر يعتمد عليها فى تحديد أهدافه وإيقاظ قدرات جماهيره، المفروض البطل يختار الأبطال، إنما لما يتحول إلى حاكم يختار عناصر منفذة، ومما يتصل بى شخصيًا وقعت لى حادثتان رئيسيتان تعلمت منهما، وعرفت أن أضيف لنفسى من خلالهما وسط التروس الضخمة التى تدير عجلة قرارات عبدالناصر وثورته، وتحركاتها فى المنطقة العربية، الحادثة الأولى التى اختارنى فيها الرئيس عضوًا بالوفد الرسمى المصرى بمؤتمر الدمام والرياض، والذى قدمنى فى حفل الختام إلى أمراء المملكة السعودية قائلًا: «هذا هو أحمد سعيد الذى تريدون رؤيته وأنا حريص عليه موش هسيبهولكم»، وسبق أن تحدثنا عن تفاصيلها، أما الحادثة الثانية فهى عندما ذهبت إلى العراق ممثلًا للاتحاد الاشتراكى فى تشييع جنازة عدنان الراوى، وهو من القوميين العرب اللاجئين إلى مصر، والذى لعب دورًا مشرفًا فى القضية القومية بالعراق، ورافقت جثته إلى العراق وأُقيمت له جنازتان، واحدة فى بغداد، والأخرى فى الموصل حيث دُفن، ومثل هذه الجنازات وحفلات التأبين لمثل هذه الشخصيات الوطنية تتحول إلى مظاهرة سياسية، خاصة إذا كان رجلًا له موقفه القومى المحترم، وهناك أُقيم مؤتمر حضره السفير المصرى بالعراق، والملحق العسكرى كمال الحناوى، وألقيت كلمة، وهتف الحاضرون باسم عبدالناصر، وقام أحد الحاضرين يهتف باسم أحمد سعيد، ورفع تقريرًا لعبدالناصر بما حدث، وروى لى محمد أحمد، سكرتير الرئيس، ما جرى أمامه، وصل التقرير إلى شعراوى جمعة، وكان يعمل بالمخابرات قبل أن يكون وزيرًا للداخلية، ووضع علامة تحت عبارة الهتاف باسم أحمد سعيد، وبعد أن اطلع عبدالناصر على التقرير، سأل شعراوى جمعة عن سبب العلامة، فارتبك، فقال له عبدالناصر: والله لما يهتفوا باسم أحمد سعيد كأنهم هتفوا باسم عبدالناصر عشر مرات.
ولم تنجح «الزمبة» التى أراد بها شعراوى جمعة أن يوقع بها بينى وبين عبدالناصر.أما محمد أحمد، سكرتير الرئيس، الذى كان ينبهنى دائمًا إلى ما يُحاك حولى، فقد كان فى الأصل ضابطًا، وهو شخصية دمثة الخلق، خيره كثير، لم أسمع له شرًا، ذات مرة انتحى بى جانبًا وقال لى: يا أحمد خُد بالك فيه ناس دست لك فى تقرير من التقارير، لكن ولا يهمك لأنى عارف رد فعل الرئيس، فقلت له: الأمور واضحة، وأنا جزء من كل، ولكن هو القائد، وكلنا نخدم قضية واحدة، وكل واحد عارف مكانه. فقال لى: لا تتصور إن الرئيس عنده حاجة من هذه الناحية، لأنى حضرت رد فعله، إنما بعض السادة المحيطين قال لواحد تانى: (إحنا قاعدين على المكاتب نطبخ الطبخة وهو ياكلها باسمه وياخد الشهرة)، يعنى الغيرة شغل النفس البشرية العادية».
يتذكر أحمد سعيد أنه كان فى إجازة يوم الجمعة مع أسرته فى الإسكندرية: «على أساس إذاعة مقال هيكل يوم الجمعة بدلًا من التعليق الذى ألقيه، وفوجئت بصلاح نصر، مدير المخابرات، يتصل بى ويقول لى: أنت فين؟، الدنيا مقلوبة، فقد كان حكم عبدالكريم قاسم قد بدأ ينقلب على القومية العربية ويتخذ موقفًا عدائيًا، مما يقتضى الرد عليه، فقلت لصلاح نصر: سأكتب التعليق وألقيه من خلال استديو إذاعة الإسكندرية.
فقال لى: لازم تكون فى القاهرة لأن فيه نقط معينة يجب أن يتضمنها التعليق. وأرسل لى سيارة قطعت الطريق فى ساعتين ونصف، كنت أقول خلالها ربنا يستر، ولكن الطريق كان يسمح بهذه السرعة فى وقت لم يكن عدد السكان كبيرًا، وذهبت إلى مبنى المخابرات القديم خلف مجلس الوزراء، ووجدت صلاح نصر يعطينى ورقة بها عدة نقاط بخط الرئيس عبدالناصر، وكلما كتبت ورقة أخذها منى صلاح نصر لقراءتها، ثم يعيدها مع طلب تعديلات معينة، حتى أتممت التعليق وألقيته، وهذا الموقف يعنى أن هناك دولة متنبهة إلى متى وأين وكيف تتخذ قرارًا وموقفًا».
ويضيف أحمد سعيد أنه بعد سقوط نظام عبدالكريم قاسم، وتولى عبدالسلام عارف تحسنت علاقات مصر مع العراق، وقام بزيارة لمصر، وفى حفل العشاء دُعيت كعضو بمجلس الأمة، وبينما أسلم على الرئيس وضيفه، أمسك عبدالناصر بيدى وقال لى أمام الرئيس العراقى: «العراق دى إنت بقيت فيها زعيم كبير، الهتافات بتطلع باسمك هناك، وقبل كده كراريس الطلبة فى اليمن عليها صورتك معايا ومع المشير، معنى كده إن إحنا مش هنقدر عليك».
قلت له: يا سيادة الرئيس كله من خيرك. فقال: «لا.. أنا يهمنى إنك تكبر، كل ما إنت تكبر أنا باكبر».