رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المذكرات غير المنشورة لـ«مؤسس صوت العرب» «5»

أحمد سعيد يروى قصة لقاء مع عبدالناصر فوق السحاب

جريدة الدستور

لم يكن الرئيس جمال عبدالناصر مبالغًا وهو يقول لأحمد سعيد، مؤسس إذاعة «صوت العرب»، أثناء اجتماعه به، ظهر يوم الجمعة 27 مارس 1956، لمدة ثلاث ساعات: «لازم تضع فى اعتبارك يا أحمد إن (صوت العرب) بالنسبة لنا جيش، ويمكن ده أقوى جيش أنا تعاملت معاه فى حياتى»، ولما كان المشير عبدالحكيم عامر حاضرًا فى نهاية هذا اللقاء قال لـ«عبدالناصر» مداعبًا: «طبعا إنت عمال تكبره علىّ». ولهذا كان أحمد سعيد أحد صُناع تاريخ ثورة يوليو، وتأثيراتها التى غيرت وجه المنطقة العربية، وهو ما عبر عنه الصحفى الإنجليزى، ويلتون واين، فى كتابه «عبدالناصر.. قصة البحث عن الكرامة» قائلًا: «المذيع الشاب أحمد سعيد نجم الإذاعة الوليدة التى أصبحت تجسيدًا إعلاميًا لتطور مسيرة القومية العربية».
بل إن رجل المخابرات الأمريكى ويليام إيليس، كتب فى عدد يونيو بمجلة «هاربر» البحثية: «إن أحمد سعيد يرى فيه بعض الناس أنه أكثر تأثيرًا من جمال عبدالناصر نفسه»، ولم يكن ذلك يغضب «عبدالناصر» الذى كانت تصله تقارير بهتاف الجماهير العربية لأحمد سعيد كما تهتف له هو نفسه، حتى إنهم أطلقوا على الراديو «صندوق أحمد سعيد»، فكان «عبدالناصر» يشجع نجاحه وشهرته قائلًا له: «أنا يهمنى إنك تكبر، كل ما إنت تكبر أنا بأكبر».
ولهذا كان يحمل أحمد سعيد فى صندوق ذكرياته الكثير من الأسرار والتفاصيل التى لم يدونها فى مذكراته، وأباح لى بها فى حواراتى الممتدة معه عبر ثلاثين سنة، التى تجاوزت العلاقة الصحفية به إلى علاقة إنسانية، جعلتنى مصدر ثقته كابن وصديق رغم فروق التوقيت، وقد حرصت على أن أنقل ما دونته فى أوراقى الخاصة بلغة أحمد سعيد وتعبيراته، مسلسلة بتواريخها الزمنية، لا بتسلسلها التاريخى، لأنها لم تكن حوارات معدة للنشر، ومن هنا تأتى عفويتها وصدقها، ولهذا فهى تنشر للمرة الأولى لتكون بين أيدى الباحثين والمؤرخين، لعلها تجيب عن بعض الأسئلة حول فترة الخمسينيات والستينيات الحافلة بالأحداث التى قررت مصائر أشخاص وشعوب.
يرى أحمد سعيد أن «العلاقات المصرية السعودية أيام عبدالناصر، مرت بثلاث فترات، فترة الخوف من الثورة، ثم فترة الاطمئنان لها، ثم فترة التعاون معها، التى زار خلالها عبدالناصر السعودية، ليكتشف أن الشعب هناك يحبه ويهتف له، حتى بعد مغادرته السعودية».
وكان أول تعامل لإذاعة «صوت العرب» مع السعودية بعد سنة واحدة من الثورة، وبطريق الصدفة، أو كما يقول أحمد سعيد: «حدث فى يوليو 1953 ونحن لا نزال فى الأسبوع الأول لإرسال (صوت العرب)، أن حضر أحمد السقاف، وهو ناشط سياسى كويتى، وجاء بواحد أتذكر اسمه الفلالى، هارب من السعودية ليخبرنى بإضراب خمسين عاملًا سعوديًا بشركة أرامكو الأمريكية للبترول، احتجاجًا على سوء المعاملة وقلة الأجور، وفصل عدد من السعوديين. واتصلت بفتحى الديب، رجل المخابرات المشرف على (صوت العرب) بتكليف من عبدالناصر لأستأذنه فى إذاعة الخبر، فطلب منى مهلة حتى ظهر اليوم التالى للتأكد من صحة الخبر، ولما تأكد أمر بإذاعته دون التعرض لأمريكا، فقد كانت علاقاتنا بها طيبة، ودون التعرض للسعودية. وأذعت الخبر وختمته مطالبًا الملك عبدالعزيز آل سعود بالتدخل لحماية رعاياه. وانقلبت الدنيا فى السعودية، وقام الملك عبدالعزيز بإعادة المفصولين وزيادة رواتبهم، وأمر بإنشاء مدارس ومستشفيات فى المنطقة التى يعملون بها. وشكرنا الملك لحُسن صنيعه».
وبعد خروج مصر منتصرة بعد العدوان الثلاثى، كان أحمد سعيد هناك فى السعودية حاضرًا ليس بصفته المعتادة مذيعًا، ولكن كعضو فى الوفد الرسمى الذى رأسه عبدالناصر لزيارة المملكة للمشاركة فيما عُرف بمؤتمر الرياض والدمام الذى شارك فيه أيضًا الرئيس السورى شكرى القوتلى، حيث نزلا ضيفين على الملك سعود بن عبدالعزيز، وكانت فرصة للمذيع الشاب ليقترب أكثر من الزعيم، ويكشف لنا عن أبعاد أخرى فى شخصيته لا نعرفها نحن من بعيد، يحكى قائلًا: «فوجئت قبل المؤتمر بعدة أيام بأننى مطلوب فى الرئاسة، وموضوع تحت يدى ملف كامل للمفاوضات المبدئية لعقد المؤتمر.. لماذا يعقد، وما الذى نريد الوصول إليه منه؟. وفوجئت بأننى عضو بالمؤتمر ولست مرافقًا إعلاميًا. وضع طبيعى لما تكون عضو مؤتمر يبقى الشق اللى يهمك هو الشق الخاص بتخصصك، ثم تبقى عضوًا فى اللجان الفرعية المنبثقة عن المؤتمر الرئيسى، التى تحاول وضع تفاصيل اتفاق سواء فى شق تخصصك أو فى الشق العام، ثم توضع صياغة عامة.. إلخ هذه الأنشطة المعروفة فى مثل هذه المؤتمرات. وبعد أن تم الإعداد فى القاهرة للمؤتمر، ركبنا الطائرة مع الرئيس عبدالناصر حسب الموعد المقرر، وضم أعضاء الوفد الرئاسى كلًا من أنور السادات، وعلى صبرى، وهيكل، وأنا، ونزلت الطائرة فى الدمام، ولم تكن طائرة الرئيس السورى شكرى القوتلى قد وصلت بعد، فانتظرناها حتى وصولها، ثم مضى الموكب، حيث سنبيت هناك ليلة ننتقل بعدها إلى الرياض، وشاء القدر أن سيارات الزعماء الثلاثة للمؤتمر (ناصر والقوتلى وسعود) كانت تسبقنى مباشرة، وكانت سيارات الموكب الأربع كلها مكشوفة، تمضى عابرة جبالًا وقرى صغيرة، ولكن أغلبها جبال، وفوجئنا بالبدو ينزلون من الجبال ويطلقون النار احتفالًا بضيوف السعودية ويهتفون: الله أكبر.. ناصر.. الله أكبر.. ناصر، واضطر عبدالناصر لإبطاء حركة سيارته نوعًا ما لتحية المرحبين به.
المنظر شدّ نظرى لحاجتين.. أننا نسير وسط جبال وليست أماكن تجمعات أو كثافة بشرية، وكان كم الناس الذين نزلوا من البسطاء، والبنادق التى كانوا ينزلون بها من على جيادهم بنادق قديمة (أمفيلد) من الحرب العالمية الأولى التى تدربت عليها فى الثانوى، أنا عارفها، استرعى انتباهى هذا المنظر وهذه الهتافات الفردية المتفرقة، واحد هنا، وبعد مترين واحد نازل، لأنهم لم يعرفوا بالموكب إلا فى آخر دقيقة عندما سمعوا به من (صوت العرب)، وهم سمّيعة له، لأن الإذاعة السعودية لم تكن تُسمَع بعد فى المنطقة الشرقية من المملكة، وإنما يا دوب كانت تُسمَع فى مكة وللصلاة، فكان هذا المنظر مثيرًا لانتباهى بحسى الإعلامى، ولأننى خارج من القاهرة بدون مهندسين، لأنى عضو بالوفد الرسمى، فقلت آخذ معى جهاز تسجيل (المايهاك) يمكن أحتاجه، وكان حجمه يومها تقريبًا أصغر من شنطة اليد ولكن أتخن منها، وكنت أضعه بجانبى فى السيارة (عهدة)، فقد كان جهازنا الرئيسى للتسجيلات الخارجية، وبدأ الحس الإعلامى يشتغل عندى.. أسجل هذه الهتافات وأعلق عليها وأنا ماشى. الطريق واقف والتسجيل بجوارى، فتحته وتناولت الميكروفون، وكل ده باين لأن العربية مكشوفة، ومارست عملى الإعلامى بعض الوقت حتى وصلنا إلى القصر، وذهبنا لحجراتنا لنستريح قبل بداية انعقاد الجلسة الأولى، وفوجئت بهيكل يأتينى ويقول: أنت كنت بتهبب إيه؟.. بتعمل إيه؟.. الريس بيسأل عليك. فقلت له: أنا معملتش حاجة. قال لى: لا.. تعال، وذهبت معه لمقابلة عبدالناصر، فإذا بى أُفاجأ به غاضبًا يقول لى: إنت هنا بتعمل إيه؟. قلت له: عضو وفد. قال: هو عضو الوفد يمسك ميكروفون؟. قلت له: يا فندم- قاطعنى: أنا شفتك لما التفت ورائى وجدتك ماسك ميكروفون وبتتكلم، أنا لو عايز مذيعين كنت جبتهم، إنما أنت عضو وفد، ولازم تحترم إنك عضو وفد.
ثم ذهبنا إلى الرياض وصدر البيان النهائى للمؤتمر (اتفاقية دفاع مشترك وتعاون ثقافى)، وكنا نرد بذلك على (حلف بغداد)، ومؤامرات العرش الهاشمى فى العراق، وكان هناك حفل فى (الناصرية) وهى مدينة يعيش فيها الملك وأسرته والأمراء، وكانت ضيافتنا بقصر (الحمراء)، وبعد توقيع البيان الذى اشتركت فى صياغته مع هيكل، اقترح عبدالناصر إذاعته فى (صوت العرب) فى الثامنة مساءً فى نفس الوقت الذى يُذاع فيه بإذاعتى الرياض ودمشق، والتفت لى عبدالناصر وقال لى: بعد الجلسة تبدأ تشتغل إعلام، وتتصل بحاتم، رئيس هيئة الاستعلامات، وتقوله ألا يُذاع البيان إلا فى الثامنة مساءً بتوقيت القاهرة فى (صوت العرب) وأنا بأرضى رغبتك يا سيدى.
وعدت إلى مقر إقامتى بقصر الحمراء، وأبتدى أفتح مع القاهرة، لأن التليفونات كانت متعبة أيامها، وأخذت المسألة منى وقتًا حتى حان موعد الحفل بمدينة (الناصرية)، وأنا مشغول بإملاء البيان، وكل شوية تليفون من سكرتير الملك سعود، وعلمت أنهم قرروا ألا يبدأ الحفل قبل أن يرى الأمراء عبدالناصر وأحمد سعيد، واجتمعوا من أجل ذلك فى قاعة كبيرة، ولما وصلت أمسكنى عبدالناصر من يدى، من بداية القاعة وقال: هذا هو أحمد سعيد الذى تريدون رؤيته، وأنا حريص عليه، موش هسيبهولكم.
وكانت الأميرات أيضًا يردن رؤيتى، وأمضينا ثلاثة أيام فى نهاية ديسمبر 1956، وأُصيب عبدالناصر بإسهال كان يستدعى دخوله الحمام بصفة مستمرة، وصمم الملك سعود على أن يعود عبدالناصر إلى مصر بطائرته الملكية المجهزة بسرير، وكان قد حصل عليها منذ فترة قريبة، ولم تكن لعبدالناصر طائرة رئاسية كالتى أصبحت موجودة فيما بعد، بل كان يستخدم فى سفرياته وزياراته طائرات شركة مصر للطيران، ولكن عبدالناصر لم يستخدم السرير فى طريق العودة، فقد أخبرنا هيكل بأن الرئيس يريد أن يستمع إلى انطباعاتنا عن الزيارة، ولما كنت مجهدًا ولم أحظ بالراحة طوال ثلاثة أيام، قلت: ألا يريد أحد أن يستريح على هذا السرير؟، فلم أجد أحدًا وقمت بالنوم، وفوجئت بعبدالناصر يمر من أمامى إلى الحمام فقمت جالسًا فقال لى: استرح. ولما عاد قمت جالسًا فقال لى: وبعدين؟!. وبعد قليل وجدته يعود للحمام ثانية فقمت احترامًا لقدومه، فقال: لا تشغل بالك بى، واسترح طالما أنت فى حاجة إلى الراحة. ولما عاد لم أستطع النوم والرئيس يمر أمامى فقال لى: طالما لا تريد أن تنام تعال لتقول لى رأيك فى الزيارة، وطلب من السادات، وكان يجلس بجانبه، أن يتنحى ﻷجلس أنا بجواره، وقال لى مداعبًا: وعملت إيه بقى لما دخلت حجرة الحريم؟، فقد كانت زوجات الأمراء والوزراء يردن مقابلة هذا الرجل الذى يدعو إلى الثورات من المحيط إلى الخليج، فقلت له: كانت جلسة تعارف ودردشة تناولنا فيها الشاى، وأعطونى هدايا كثيرة. فقال لى: إنها من حقك».
ويستطرد أحمد سعيد: وكنت قد بعت بعضها، الهدايا، أثناء محنة استبعادى من الإذاعة ولم يكن لى مورد أصرف منه.
ملحوظة من الكاتب
«قالت لى زوجة أحمد سعيد إن الملك سعود نفسه قد أهدى زوجها سيفًا ذهبيًا ظل محتفظًا به حتى اضطر إلى بيعه للإنفاق على حملته الانتخابية التى فاز فيها بعضوية مجلس الأمة».
يستكمل أحمد سعيد حواره مع الرئيس فى طائرة العودة: وسألنى عبدالناصر: «عندك سيارة؟ قلت له: لا. فقال: هو أنت فقير؟!.. كم تتقاضى؟. قلت: مرتبى بالبدلات 35 جنيه. فقال لى: كل الهيصة اللى إنت عاملها دى بـ35 جنيه؟. وزدت بعد ذلك، واشتروا لى سيارة على حساب الدولة، ولكن الزيادة المادية أثارت مشكلة جعلت الرئيس يتدخل بنفسه لحلها، أذكر أننى عندما دخلت مجلس الأمة استقلت من (صوت العرب)، لأنه كان ممنوعًا الجمع بين عملين فى وقت واحد، ولما هبط مستوى (صوت العرب)، طلب عبدالناصر عودتى إلى (صوت العرب)، فقلت له: إننى بدأت أعود للمحاماة، فقال لى: محاماة إيه؟!.. إنت هنا جندى هتعيش وتموت فى (صوت العرب).
وطلب من د. عبدالقادر حاتم، وزير الإعلام، أن يعطينى أعلى أجر، وفاوضنى د. حاتم، وكنت أتقاضى عن دقيقة التعليق الواحدة على الأحداث، خمسين قرشًا، فطلبت مساواتى بطه حسين الذى كان يتقاضى عن الدقيقة الواحدة فى حديثه جنيهًا كاملًا، فاستكثرها علىّ، ونقل د. حاتم المسألة إلى الرئيس الذى تلقانى مداعبًا: تريد أن تضع رأسك برأس طه حسين، لقد كنت أريد أن أعطيك أكثر منه. فقلت له: يشرفنى أن أتساوى بطه حسين. وقد كان، أما بالنسبة لمرتبى، فقد أرادوا أن يعطونى فى البداية مرتب وكيل وزارة، ففرحت لأنى كنت شابًا فى الثلاثينيات، واكتشفت أن مرتب وكيل الوزارة ببدلاته 160جنيهًا، وقلت للدكتور حاتم: أنا أريد أن أحصل على 300 جنيه، فاستكثرها، فقلت له: إننى أتقاضى عن تعليقاتى 280 جنيهًا.
وفى النهاية وافق بعد أن قال لى: إنك تتجاوز مرتب رئيس الإذاعة، فقلت: إذن اجعله يكتب هو التعليق ويلقيه. وفى النهاية وافق بعد أن قال: ولكنك ستُهيّج الإعلاميين علينا. وبالفعل قوبلت بهجوم من الصحف قاده موسى صبرى، مما أغضب عبدالناصر وجعله يقول فى اجتماع أشار فيه إلىّ دون أن يسمينى: إذا كان فيه واحد فى الإذاعة مؤثر فى المنطقة العربية، لماذا لا نكافئه؟، أنتركه ليرتشى أو يشتريه أعداؤنا؟.
وفهمت جملة عبدالناصر الذى كان يشير إلى محاولة مذيع بإذاعتنا الموجهة بالفرنسية، وهو كان متزوجًا من فرنسية، وحاول رشوتى، وقد جاريته بالاتفاق مع المخابرات، وتم القبض عليه، فقد حاولت فرنسا رشوتى عن طريقه لكى أتوقف أو على الأقل أخفف من حملاتى عليها بسبب استعمارها الجزائر، وعندما طلب دالاس، وزير خارجية أمريكا، من عبدالناصر: أوقفوا إعلامكم خاصة (صوت العرب)، فقال له عبدالناصر: «لا تريدون أن تعطونا سلاحًا نحارب به وندافع عن أنفسنا، ولا تريدون أن تكون لنا أسلحة نتكلم بها؟».
ويعود أحمد سعيد إلى حواره مع عبدالناصر فى طائرة العودة من السعودية، فيستكمل ما انقطع، وإن لم يبعد الاستطراد الذى مضى فيه عن موضوع حديثه مع الرئيس فوق السحاب عن تأثيره و«صوت العرب» فى المنطقة العربية: «قال لى عبدالناصر: بس أنت لك شعبية غريبة جدًا وسط الأمراء، وعايزين نستفيد من الحتة دى، دول ممكن يبقوا معانا أكثر من ساستهم، حط دى فى اعتبارك. قلت له: بس يا فندم علاقتنا حتى الآن بهم كويسة.. لا توجد خلافات. قال الرئيس: لكن مع انتهاء العرش الهاشمى، فى العراق، جايز الأمور تتغير.. وفيه منهم، الأمراء السعوديون، مثقفون يا أحمد خد بالك. من مناقشاتى معهم فهمت إن فيه منهم مثقفين ودارسين ومتعلمين، غير القبلية المعتادة اللى بنسمع عنها بين السعوديين، شوف مثلًا فيصل. وراح عبدالناصر يعطى إيحاءات بقيمتى وقال: معلهش أنا زعقت لك فى الأول، لكن أنا كنت عايزك تلتزم بوضعك كعضو مؤتمر.
ثم سألنى: ما هو انطباعك عن الزيارة؟، وبدأت أتكلم بما جعلنى ألاحظ لأول مرة حدته وغضبه».

نص حوار نادر بين الزعيم والملك فيصل: علاقتنا متينة تسودها الأخوة الخالصة.. والخلاف بيننا أمر شاذ
يحسن بنا- ونحن نتحدث عن العلاقات المصرية السعودية- أن ننقل النص المجهول لحوار بين الرئيس عبدالناصر والملك فيصل، كما سجله عبدالمجيد فريد، أمين رئاسة الجمهورية وقتها، وذلك فى جلسة جمعت بينهما فى القاهرة فى 18121969 تناولا فيها العلاقات المصرية السعودية.
الرئيس عبدالناصر: أرحب مرة أخرى بجلالة الملك وبالوفد المرافق لكم، معبرين عن رغبتنا الصادقة فى نجاح هذا اللقاء والوصول إلى تفاهم مشترك حول الموضوعات التى تهمنا وتهمكم. إننا نحاول من جانبنا تحسين العلاقات معكم منذ عام 1967، وقد رحب شعبنا بذلك، كما عبر لكم اليوم عندما استقبلكم هذا الاستقبال الحافل، لأنه شعر بأن هناك علاقات غير طبيعية معكم، وأن المصلحة العربية تنادى بضرورة عودتها إلى الطريق الطبيعى، خصوصًا أن العلاقات «المصرية - السعودية» كانت دائمًا وعلى مر السنين علاقات متينة تسودها الأخوة الخالصة. ولا شك أن هذا اللقاء سيقطع الطريق على كل المستفيدين من هذا الخلاف، كما أننا نعتقد أن الزيارة ستكون لها آثار بعيدة المدى، ليس فى بلدينا فقط ولكن فى العالم العربى كله. إذا كانت حرب اليمن قد أساءت للعلاقات بيننا فقد انتهت الحرب الآن، ولم يعد هناك مبرر لعدم تحسن ونمو العلاقات بيننا.
الملك فيصل: أشكركم على ترحيبكم، كما أشكر شعبكم الكريم، وأود أن أقول إن جميع ما تفضلتم به بشأن العلاقات بيننا، هو الصواب، وأن الخلاف بيننا كان أمرًا شاذًا، ومنذ أيام الملك عبدالعزيز والعلاقات بيننا كانت طبيعية وقوية، أما ما حدث بعد ذلك فهو أمر غير طبيعى، وأنا أقول دائمًا إن أى خلاف يحدث بين طرفين فلا بد أن هناك طرفًا ثالثًا وراء هذا الخلاف. أملنا أن تعود العلاقات لما كانت عليه سابقًا، ونحن نعتبر أن هذا أمر واجب وحتمى، على كل منا أن يسعى لتحقيقه، لأن مصلحة البلدين وطنيًا وإسلاميًا تلزمنا بأن نكون يدًا واحدة، وأن نكون جسمًا واحدًا. وعلى المسئولين قبل الأفراد فى البلدين أن يعملوا لخلق الظروف المناسبة لتحقيق هذا الهدف. ونطلب من الله أن يعيننا فى مسعانا والله لا يقبل سوى العمل الصالح المشترك.
ويكشف هذا الحوار عن عمق العلاقات بين مصر والسعودية، وضرورة أن تبقى قوية طوال الوقت، وتجاوز أى خلافات من أجل مصلحة البلدين والأمة العربية، باعتبار أن الخلافات بين الدولتين العريقتين «أمر شاذ»، كما عبر عن ذلك الملك فيصل، وأن التعاون بينهما هو الأمر الطبيعى، لأن مصر بثقلها البشرى والحضارى، مع السعودية بوزنها الدينى والاقتصادى، تحققان توازن الأمة العربية وتضامنها، مما يزيد قوتها ويضيف إلى قدرتها، وهو ما ظهر جليًا فى حرب أكتوبر، بل إن التاريخ المجهول يكشف لنا أن أشقاءنا فى الحجاز قد عبروا البحر الأحمر وشاركوا إخوانهم المصريين فى مقاومة الحملة الفرنسية، ولم تتخل السعودية أبدًا عن مصر خلال الأوقات المفصلية فى تاريخها، كما حدث بعد إجماع الشعب المصرى على إسقاط حكم الإخوان؛ لتقوم شبه حملة دولية معادية تغذيها آلة الدعاية الإخوانية، تتصدى لها السعودية ويقوم وزير خارجيتها المخضرم سعود الفيصل بجولة أوروبية يدافع فيها عن اختيارات الشعب المصرى، وعندما مرت مصر بمحنة الهزيمة 1967 كان دعم السعودية لمصر؛ لكى تقاوم وتنتصر.