رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حتى لا تكون مقامات أصحاب المعاشات تحت الحذاء



تكاثُر البقع السوداء، فوق صفحة الثوب الأبيض، لا ينفى عنه بياضه، حتى ولو تكالبت عليه كل أصباغ الدنيا وألوانها، علّها تخفى عن العيون، بهاءه وزهاه!.. وهكذا حال الحكومة، لا ينفى جهدها وحرصها على حياة المواطن، وعيشه كريمًا مُصانًا، عبث بعض موظفى هيئاتها، وسوء تصرفاتهم، التى تأتى عكس ما تصبو إليه الحكومة، من حفظ كرامة هذا المواطن، وتذليل عقبات الحياة من حوله، ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.
تهدر - أى تصرفات بعض الموظفين - حرص رجالات الدولة المصرية على تأمين المواطن فى مسكنه، والحرص على تعليمه التعليم الذى يليق به، وبمكانة بلده، وحفظ حياته، من خلال مبادرات تترى، الواحدة تلو الأخرى، تنفق فى سبيلها المليارات، وتستحث كل رجالاتها لأداء المهمة المقدسة، تحت عنوان (مواطن مصرى صالح، مُعافى فى بدنه، آمنًا فى سربه، لا يخاف غدر الأيام، ولا يخشى الغد المجهول).. لن يجرمنا شنآن بعض المستهترين فى أجهزة الحكومة على ألا نثق بهذه الحكومة ونطمئن إليها، ونوقن أن الجميع فيها على قلب رجل واحد، من أجل مصر المحروسة، لأن على رأس الدولة رجلًا، قطع على نفسه عهدًا بأن تبقى مصر (أم الدنيا، وقد الدنيا).. وها هو يفعل ما أقسم عليه، حتى لو تغابى البعض عن فهم رسالته.
وأصدقكم القول، بأننى قاومت قلمى مرات، وهو يستحثنى أن أكتب عن واقعة، كانت كالبقعة السوداء، حاول موظف فى هيئة التأمين والمعاشات، أن يُلقى بها على ثوب حكومة تنتمى لدولة، تستهدف مواطنيها بـ«تكافل وكرامة»، ينتشلهم من قسوة الحياة وصعوبة تكاليفها، وتحصنه بـ«١٠٠ مليون صحة» ضد غائلة فيروسات أقضت مضاجع وحصدت أرواحًا، وتجرى نحو «نور حياة»، يحمى أبصار الكبار والصغار، ويعيد الأمل لكل من فقد الرؤية، حتى يرى الجميع عِظَم ما يجرى على أرض بلدهم، من نهضة عمرانية، وتنمية اقتصادية، قفزت فوق الزمن، وتحققت فى وقت وجيز، لا نملك رفاهية إضاعة المزيد منه، بعد طول حرمان عانيناه خلال سنوات عجاف.. إنجازات لا تُخطئها العيون المبصرة، ولا القلوب التى لم تعمَ.. وهنا أحاول توصيل الرسالة، لأنها أمانة، وما أريد منها إلا الإصلاح ما استطعت.
فى صالة ضيقة، بمكتب التأمينات والمعاشات، التابع لوزارة التضامن الاجتماعى، الكائن بإحدى عمارات شارع أحمد عرابى بالمهندسين، لا تتجاوز مساحتها مترين عرضًا وأربعة أمتار طولًا، اصطف أصحاب المعاشات، يقضون مصالحهم أمام موظفة تجلس خلف جهاز حاسب آلى، أخذ عددهم يزداد بمرور الوقت.. فصاحت الموظفة: (يا محمد.. يا محمد.. الناس كتير، وفيه ستات جم دلوقتى.. إعمل حاجة).. وإذا بشاب فى نهاية الثلاثينيات من عمره يأتى من خارج الشقة، التى هى مقر العمل، قائلًا: (إعملى صف للحريم، وخدى واحد من الرجالة وواحدة من الحريم).. فانبرى رجل تجاوز الستين، ليقول له: (يا أستاذ محمد، إحنا بقالنا كتير فى الصف، وكلامك ده حيطول وقوفنا.. عندك جهازين كمبيوتر تانيين ما فيش حد عليهم، شغل واحد، وزمايلك أهم موجودين، نقوم ننجز ونرجع لبيوتنا، واللى وراه مصلحة تانية، يلحق يعملها).. كلام رجل عاقل، وحكمة سنين وربما خبرة عمل، قال بها الرجل.. لكن يبدو أن محمد بيه لم يعجبه تدخل الرجل المُسن بالرأى: (يا بابا!!.. أنا رئيس القسم هنا، وأنا اللى أشوف إيه يتعمل.. وإذا كان كلامى مش عاجبك.. عندك المدير روح اشتكينى)!.. رد الرجل: (أولًا أنا مش بابا، التى تتهكم بها علىّ.. ثانيًا أنت فى خدمة هؤلاء الناس والعمل على راحتهم).. قاطعه الأستاذ محمد بسرعة، ولم يدعه يُكمل كلامه: (إحنا مش خدامين حد.. اللى زيك هنا.. مقامه فى الجزمة القديمة)!.. أطبق الصمت، وساد الوجوم وجوه أصحاب المعاشات، ووقف الكل وكأن على رءوسهم الطير.. وإذا بصوت واحدة من الموظفات يُكمل المهزلة: (كل واحد عاوز له موظف خصوصى.. عجيبة!).
ولن أُكمل ما حدث، فلا أريد أن ألوث أبصاركم بكلمات تقافزت هنا وهناك.. والبيه المدير، كأنه فى دنيا غير الدنيا.. لكن ما يهمنى قوله هنا، أن مثل هذا الموظف جاء مثالًا سيئًا لبعض العاملين بالجهاز الإدارى للدولة، كما أنه انعكاس حقيقى لنظرة مثل هؤلاء لأصحاب المعاشات، وقد كان منهم الرئيس والمدير فى أماكنهم، وبينهم جهابذة ومبدعون، يوم كانوا فى الخدمة.. قول مثل هذا الموظف، يحكى ما لم تنطق به الألسنة، عن خيل الحكومة التى يريد البعض أن يطلق عليهم رصاصات الرحمة، مع أنهم كانوا ملء السمع والبصر، وخدموا بلادهم، بشرف وأمانة، فى كثير من المواقع.. ولا يعلم هذا الموظف، أن أصحاب المعاشات هؤلاء يكفلون راتبه وزملائه، والعاملين فى هيئته، من حر مالهم الذى دفعوه عبر سنوات طوال، حتى يأتى اليوم الذى يستمتعون فيه بحصاد ما زرعوا، لكن مثل هذا الموظف يجعلهم يشعرون أنهم كانوا يزرعون الحُصرم، وأنهم أفنوا أعمارهم، فى ماء ألقوه بصحراء جرداء، فلا الصحراء تُنبت، ولا الرمال تُبقى على الماء.
نصيحتى للسيدة الوزيرة الفاضلة، التى تستأنف على أحكام القضاء بشأن الحكم الخاص بالأجر المُتغير للعاملين بالدولة، من أصحاب المعاشات، والعلاوات التى لم تدخل ضمن ما يتقاضونه، أن تُنظم دورات لموظفى هيئتها الموقرة، فى كيفية التعامل مع من هو أكبر منا سنًا، ومع من أفنوا أعمارهم فى خدمة بلدهم، أولئك الذين ادخروا أموالهم، على مدى سنين عملهم، يتقاضون منها معاشاتهم، ويتقاضى مثل هذا الموظف أجره ومكافآته وحوافزه، وكل ما يتمتع بمزاياه، على حساب من يعتبر مقامهم (تحت الجزمة).. خسئت بطن أنجبت من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير.. ما نامت أعين كل من لم يقرأ قول الرسول الكريم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا).. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.