رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سد النهضة.. بين الإخوان والأمريكان


يمكن لإثيوبيا أن تلعـب دوراً إقليمياً متعاظماً وتستأثر بالنفوذ فى نسقها الإقليمى، وتوجه أدوات تأثيرها لدول القرن الأفريقى الكبير من خلال امتلاكها أكبر حجم من الطاقة الكهرومائية وتوجيهها إلى هذه الدول التى هى فى احتياج شديد لهذه الطاقة المستخرجة من سدود النيل الأزرق دون النظر إلى مصر التى تراجعت قوتها الشاملة إلى أدنى حد لها فى زمن الجماعة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

أثار موضوع تحويل مجرى نهر النيل الأزرق تفاعلات متباينة باعـتباره إحدى الخطوات الفعـلية لإنشاء سد النهضة، وقد أصبح موضوع السد من أهم القضايا المطروحة عـلى الساحة المصرية، حيث ترجع أهميته إلى عاملين، الأول هو أنه يتعلق بأهم عـنصر من عـناصر الأمن القومى المصرى، حيث يتعـلق ببقاء ووجود الدولة، والثانى يتعـلق بسرعة وكثافة وتراكم تفاعلاته، خاصة بعـد لقاء الرئيس بعـض رؤساء الأحزاب المعارضة والشخصيات العامة فى غـرفة اجتماعات مغـلقة وتم بثه على الهـواء لإظهار مدى ضآلة المعارضة وضعـف تأثيرها، ثم تلاه لقاء الأهل والعـشيـرة لإظهار مدى قوة التيار الإسلامى السياسى لترهيب متظاهرى 30 يونيو، وقد وجه الرئيس فى كلمته رسالة إلى إثيوبيا حيث أعـلن أن جميع الخيارات متاحة لحل هذه الأزمة متضمنا الحل العـسكرى، أما الرسالة الثانية وهى الأهم فهى موجهة إلى القوى السياسية والوطنية حيث طالبهم بنبذ الخلافات الحزبية والصراعات السياسية حتى يمكن تجاوز التحديات الراهـنة، والتوصل إلى استراتيجية موحدة لمجابهة ما يحيق بالوطن من تهديدات بما يضمن حماية التاريخ والحاضر والمستقبل، وبعـد هذين اللقاءين أدركتُ أن مصر قد فقدت ما تبقى لها من مكانة وهيبة فى نسقها الإقليمى ووسط تجمع دول حوض النيل على حد سواء، فقـد ظهر للجميع مدى ضآلة النخب السياسية فى مصر ومدى ضحالة الفكر السياسى التى تدار به شئون الدولة، وهو ما بدا واضحا عـندما اجتمع مجلس الأمن القومى لدراسة تداعـيات الأزمة الطاحنة بعـد هذين الاجتماعـين الهزليين وهو ما يشير إلى أن مصلحة مصر العـليا تأتى متأخرة جدا عـن مصلحة التنظيم الدولى للجماعة، بل تأتى متأخرة أيضاً عـن إرضاء جماعات التيار الإسلامى المتحالفة مع الجماعة غالبا والمنشقة عـليها نادراً.

وفى المقابل واستمراراً لتراكم وتسارع تفاعـلات الأزمة أعـلنت إثيوبيا أن موضوع سد النهضة غير قابل للتفاوض إزاء ما سمته بحملة الدعاية غـير المتعاونة التى يقودها سياسيون وأحزاب فى مصر ضد إثيوبيا، والتى تعـبر تعـبيرا صادقا عـن الصلف المصرى فى التعامل مع الآخرين، ثم طلبت عـقد اجتماع عاجل للدول التى وقعت على الاتفاقية الإطارية المعروفة باتفاقية عـنتيبى «تنزانيا وكينيا وأوغـنـدة وروانـدا وبورونـدى بالإضافـة إليـها» للإطلاع عـلى التقـريـر النهائى لسد النهـضة والحـصول عـلى الموافـقـات السياسية من مجالسها البرلمانية، وهو ما يمثل ضغـطا سياسيا على مصر خاصة بعـد إعـلان الخرطوم أن إثيوبيا قـد أطلعـتها على جميع المعـلومات المتعـلقة بالسد، وأن الخرطوم لا تجد مبررا مقـنعا عـن سبب رفض مصر لسد النهضة الذى سيفـيـد دولتى المصب، وقد أعـلنت جوبـا أيضاً أنها ستوقع على الاتفاقية الإطارية إن لم تكن قد وقعـتها بالفعـل، بينما أعـلنت الكونغـو أنها لا ترغب فى إحداث انشقاقات بين دول حوض النيل بسبب مياه النهر، التى يفترض أن تكون سبباً فى إقامة تكتل للدول المتشاطئة على ضفافه، هكذا انتهزت إثيوبيا «بإيعاز من الولايات المتحدة» عـوامل اضمحلال الدولة المصرية المتمثلة فى الانشقاق السياسى والانهيار الاقتصادى، والتمزق المجتمعى والانفلات السلوكى والقيمى، والانكشاف الأمنى فى زمن جماعة الإخوان المسلمين حتى أصبحت مصر فى أدنى حالاتها من حيث المكانة والهيبة الإقليمية، فشرعـت إثيوبيا فى اتخاذ أولى مراحل إنشاء السد بتحويل مجرى النيل الأزرق فى احتفالية شهدها العالم.

وقد أفرزت هذه التفاعلات عـدة حقائق يتعـين وضعها فى الاعـتبار فى جميع الحسابات الاستراتيجية للتعامل مع هذه الأزمة، إذ تشير الحقيقة الأولى إلى أن إصرار إثيوبيا عـلى تنفيذ مخطط إنشاء السدود الأربعة على مجرى نهر النيل الأزرق تحديدا يستهدف الأمن القومى المصرى لصالح قوى إقليمية أخرى، ذلك أن هناك أنهاراً كثيرة على الهضبة الإثيوبية يمكنها توليد الطاقة الهيدروكهربية المطلوب توليدها دون الثأثير فى حصة مصر المتناقصة دوما بحكم الزيادة السكانية، الحقيقة الثانية هى أن مرحلة التفاوض قد أصبحت صعـبة التحقيق إن لم تكن مستحيلة، بل يمكن القول أنها قد ولَت وانقضت بعد خطاب الرئيس فى مؤتمر الأهل والعشيرة وإعلانه أن جميع الخيارات مفتوحة أمامه، وتشير الحقيقة الثالثة إلى أن خطاب الرئيس أدى إلى تداعـيات خطيرة عـلى علاقات مصر الخارجية سياسيا واقتصادياً وعـسكرياً واجتماعـياً، بل أصبح من الصعـب أن تتعاطف دولة أفريقية واحدة مع الموقف المصرى، أما الحقيقة الرابعة والأخيرة فيمكن إيجازها فى أن المصلحة القومية العليا لمصر تأتى فى درجة متدنية فى قائمة أولويات نظام الحكم، وأن الهيمنة الكاملة على مؤسسات وأجهزة الدولة وهدم أركانها وإحداث الانشقاق المجتمعى ونشر الفوضى هى التى تأتى على رأس قائمة أولوياتها.

والجدير بالذكر أن فكرة إنشاء السدود فى مناطق دول منابع النيل قد بدأت تتبلور فى الاستراتيجية الأمريكية منذ عـام 1956، عـندما قدَمت الولايات المتحدة إلى مصر دراسة تفـيـد عدم جدوى إنشاء السد العالى فى وجود سد أسوان، حيث يمكن تطويره بما يضمن تلبية جميع مطالب مصر من الطاقة الهيدروكهربية بنفس القدر الذى يمكن توليدها من السد المزمع إنشاؤه، كما يمكن تلبية مطالب تصريف المياه بما يحقق تنظيم الرى وفقا للسياسة الزراعـية، الأمر الذى يؤدى إلى ترشيد الجهد والمال والوقت وتوجيهها لإنشاء مشروعات أخرى تعـود بالنفع على مصر، إلاَ أن مصر قد رفضت هذه الدراسة واعـترضت عليها، خاصة بعـد أن تسرب إليها رفض البنك الدولى تمويل إنشاء السد، فلجأت إلى الاتحاد السوفييتى القطب الموازن فى النظام الدولى ثنائى القطبية، وهو ما اعـتبرته الولايات المتحدة تحديا لإرادتها وإهانة لمكانتها، هكذا لم تنس الولايات المتحدة هذه الإهانة ويبدو أنها قد أصرت عـلى أن تجعـل السد العالى غـير ذى قيمة، فأجرت المسوح الجغـرافية والجيولوجية لجميع المناطق التى ينبع منها النيل، فوجدت ضالتها فى الهضبة الإثيوبية فى منطقة مجرى النيل الأزرق الذى يتمتع بأكبر حجم من الهطل المطرى لتحقيق أهدافها حسبما تقتضى مصلحتها العـليا، فالمصلحة الأمريكية تقتضى عـدم زحزحة موقع الهيمنة بعـيدا عنها، وهى عـملية باهظة التكاليف.

فوضع برجنسكى مستشار الأمن القومى الأمريكى الأسبق رؤيته الاستراتيجية للاحتفاظ بموقع الهيمنة فى قلب الولايات المتحدة، التى تتلخص فى تقسيم العالم إلى أقاليم، على أن تستقطب وتدعم قوة إقليمية لتكون قادرة عـلى الاستئثار بالنفوذ وتوجيه أدوات تأثيرها على وحدات نسقها الإقليمى بما يؤدى إلى استجابة الآخرين لها، وهو ما يعـرف بالهيمنة بالنيابة، وما يهمنا هـنا هو تقسيم الشرق الأوسط الكبير، والقرن الأفريقى الكبير، حيث برز مصطلح الشرق الأوسط الكبير فى حديث الرئيس أوباما الذى نشرته جريدة «شيكاغـو تريبيـون» قبل تنصيبه بأنه سيعـمل على تحسيـن صورة الولايات المتحـدة فى العالم بوجه عام وفى العـالم الإسلامى بالشرق الأوسط على نحـو خاص، حيث جعـل أوباما منطقة الشرق الأوسط الكبير هى التى تحتوى العالم الإسلامى.

■ أستاذ العلوم السياسية ـ جامعة بورسعيد