رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تدميره فى تدبيره!!


أعتذر عن الاستطراد فيبدو أن قلبى موجوع ومفطور من حفنة الظلمة الذين يحكموننا فى تلك الأيام النكدات.

القصة التى سأرويها لكم هى قصة حقيقية، مأخوذة من أوراق المحاكم والقضايا القديمة وأكاد أجزم أن تلك الواقعة حدثت كما أرويها لكم، وهى خالية من أى قدر من المبالغة أو التهويل، فالغرابة التى فيها تكفينا وتزيد، أما عن الواقعة بحذافيرها فهى عن مسئول ظالم تقلد أحد المناصب التى ينبغى من خلالها أن يجرى العدل ولكنه لم يفكر إلا فى «عدل ذوى القربى والعشيرة» وقد تصابون بالضجر والملل من قصة مكررة معادة فى حياتنا كانت وما زالت وستظل، فمثله يحكمون علينا فى هذه الأيام بظلم وطغيان دون أن يرمش لهم جفن.

لكننى أطمئنكم فهذه الواقعة حدثت فى الأربعينيات إلا أننى أتمنى من الله أن تحدث مرة أخرى فى هذه الأيام لواحد من الناس أحتفظ باسمه فى مكنون ضميرى .. ندخل فى القصة حتى لا نطيل عليكم ،إنه سيادة رمضان بك الشناوى الذى ينتمى إلى مدينة طنطا، واسمه هو الشىء الوحيد فى القصة الذى وضعته من نسج الخيال، وطبعًا نقول إنه بك لأنه كان صاحب مرتبة وظيفية مرموقة إذ كان يعمل مستشارًا لأحد الكبار فحصل على البكوية رسميا، فضلا عن أن الواقعة حدثت كما قلت لكم فى زمن البكوات والباشوات أما الآن فنحن فى زمن الببغاوات والإمعات، فالظالم فى الزمن الماضى كان ظالمًا محترمًا أما الظالم فى هذه الأيام فهو ظالم «هفأ».

أعتذر عن الاستطراد فيبدو أن قلبى موجوع ومفطور من حفنة الظلمة الذين يحكموننا فى تلك الأيام النكدات.. نعود لرمضان بك الذى تزوج من فتاة غاية فى الجمال تنتمى إلى عائلة من أكبر عائلات الغربية، ولكى يليق بمقام أسرتها فقد شيد لها فيللا فاخرة فى منطقة نائية على أطراف طنطا جعلها عشا للزوجية الفيللا لا المنطقة النائية ثم دبر أمر حراسة الفيللا وأحكم تدبيره فاستأجر خفيرًا صعب المراس قوى الشكيمة من بلدته يحرس عشهما ويذود عنه من غوائل اللصوص.

لم يكن استئجار الخفير من باب الترف والدعة، ولكن كان ذلك لأن رمضان بك يتغيب أيامًا عن أهله حيث يعمل فى القاهرة فى مكتب المسئول الكبير طوال الأسبوع ويعود سالماً غانمًا لزوجته الوحيدة يومى الخميس والجمعة، وحين يستقر فى بيته فى يومى الأجازة يرمى نفسه فى أحضان زوجته وهو مشرئب المشاعر وقد تخلصت ذاكرته أثناء الطريق من أدران قراراته الظالمة حتى إن الظلم الأخير أقصد القرار الأخير الذى أصدره كان من نصيب رجل من أهل الله وخاصته، وما إن صدر القرار حتى قال المظلوم بصوت جهورى سمعته كل الوزارة: (اللهم اجعل تدميره فى تدبيره) ولم يستلفت هذا الدعاء نظره ولم يستوقف فكره، وكالعادة تخلصت ذاكرة رمضان بك من أدران هذا القرار أثناء عودته إلى طنطا حيث نعيم الدنيا الذى يستشرفه.

وفى الأسبوع التالى سافر الزوج كالمعتاد بالقطار لعمله فى القاهرة وفى الطريق تعرضت محفظته المتخمة بالأوراق لحادث نشل، وعندما تنبه ليد النشال الأثيم وحاول إمساكه واللحاق به فشل، فقد قفز اللص من القطار المسرع،فإذا بسيارة نقل قادمة تدهس ذلك اللص فتفرمه فرمًا وتحيله كتلة من اللحم غير واضحة المعالم .. ويستمر القطار فى طريق رحلته، وفى ذات الوقت تأتى سيارات الإسعاف والبوليس فتحمل جثة اللص إلى مشرحة طنطا وهناك يعثر رجال البوليس على المحفظة وبها بطاقة تحقيق الشخصية الثابت بها أنها خاصة برمضان بك الشناوى ذائع الصيت فى طنطا وضواحيها، ويقيد الحادث عوارض أى أن القضاء والقدر كان هو صاحب اليد الحاسمة فى هذه الميتة.

وعلى عجل جاء أهل رمضان بك وهم يرفلون فى حزنهم واستلموا الجثة وبكوا عليه ودفنوا الجثمان فى مقابر العائلة وأقاموا العزاء يومها، وغابت زوجته الثكلى عن وعيها يوماً أو بعض يوم ثم استفاقت بعد ذلك وعادت فى آخر الأسبوع مع أختها إلى فيللا الزوجية كى تحمل متاعها وتذهب إلى بيت أسرتها ولما جن عليهما الليل أزمعا المبيت فى المكان حتى الصباح .. أين ذهب رمضان بك من كل هذا؟ كان غافلا عما حدث فقد هبط مصر وقد استعوض الله عن محفظته التى لم يكن فيها خردلة ولا مليم واحد ولكن فقط تحتوى على أوراق يسهل استخراج أوراق عوضًا عنها، فقد تعود على أن يضع جنيهاته وقروشه فى أحد جيوب بنطاله السحرية.

وعلى عجل ذهب إلى مقر البرلمان كى يلحق بموعد انعقاد إحدى الجلسات المهمة التى كان يتابع فيها لوزيره أحد القوانين المهمة التى كانت قيد المناقشة، ومن سوء حظه ظلت الجلسة منعقدة عدة أيام لا تنفض إلا آخر الليل، فيذهب رمضان إلى استراحته، وفى الصباح يذهب للوزير فينبئه بخبر المناقشات ويهرع للبرلمان مرة ثانية ليستمر فى المتابعة وهكذا دواليك ،وبعد أن حلت نهاية الأسبوع قفل أدراجه عائداً إلى طنطا بعد انقضاء أيام عمله ، وتصادف أن عاد فى وقت متأخر من الليل حيث توجه إلى سكنه متشوقًا إلى زوجة أضناه البعد عنها .

كان الخفير نائمًا سادرًا فى أحلامه، فدفع رمضان بك باب الفيللا الخارجى ثم دخل متثاقلاً مجهدًا وأخذ يبحث عن مفاتيحه ولكنه لم يجدها فتنبه أنها كانت فى محفظته، فطرق الباب ولمّا لم يأته الرد طرق طرقًا متواليًا، ومن تصاريف القدر أن زوجته كانت قد جمعت حاجياتها الشخصية وغادرت البيت إلى بيت أبيها، ولما لم يلق ردًا، أصابه العجب، فالزوجة الوفية كانت قد تعودت على انتظاره على أحر من الجمر، فلماذا فى هذا اليوم لم تبق فى الدار، أين ذهبت، ولماذا غابت؟، وانتابته الهواجس فهرع إلى الطريق حيث توجه للخفير ليستعلم منه عن الأمر، هز رمضان بك خفيره هزًا عنيفاً ليوقظه من سباته العميق، وعندما استيقظ النائم وقف كأنه نصف مخدر فظن أن الواقف أمامه عفريتا من الجن تجسد فى صورة سيادة رمضان بك الشناوى الذى مات فى ظنه وشبع موتًا، فأطلق عليه وابلا من الرصاص فأرداه قتيلا.. فكان مصرعه على يد حارسه الأمين .. حقًا جاء تدميره فى تدبيره.

إنها دعوة المظلوم، هذه هى القصة، المهم أن النيابة العامة تحيرت، ما هو الاتهام الذى ستنسبه للقاتل، هل هى جريمة قتل عمد، لو قلنا ذلك لكان على النيابة أن تثبت أن الخفير قتل رمضان بك عامدًا متعمدًا قتله، فى حين أن التحقيقات أثبتت أنه كان يقتل «عفريتاً» وهيئ له أنه لو قتله سيحدث ما ترويه الأساطير الشعبية وسيحصل على بودرة العفريت التى تساعده على الاختفاء، ولو قلنا إنه قتل خطأ لوجب أن يثبت أنه لم تعمد القتل، فى حين أنه قتل عامدا، وعلى هذا جرى جدل قانونى كبير نتمنى أن يثور مثله فى هذه الأيام.

■ قيادى سابق بجماعة الإخوان المسلمين