رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود درويش وهوية الأرض


لعل محمود درويش، بتاريخه الشعرى الزاخر، يُعد من أكبر المبدعين الفلسطينيين تأكيدًا على جماليات القصيدة وعنفوان المضمون، عبر تناغم اللحظات المختلفة من الواقع العربى المفعم بأسئلة متلاحقة عن الوجود الفلسطينى وهوية الأرض. فكان العاشق لوطنه الذى آثر الصمت خارج مضامين القصيدة، وكأن الكلام نفد ولم يبقِ له سوى الالتزام بتأمل الواقع ورصده، وهو الواقع الأليم الذى يوحى بعبثية المشهد ويقين السؤال المفعم بإدانة التخاذل العالمى والعربى بوجهٍ خاص، والتباس المواقف، والعدو على مرمى حجر يشرب الشاى فى الكوخ العربى ويطأ بقدميه بكارة العشب المبتل. فآثر الإنسان فيه طوال رحلة عمره القصير أن يصمت؛ ويقوم الشاعر بداخله بالغناء بكل معانى الجمال والحب والثورة. وعندما تُرجمت أعماله إلى لغاتٍ عالمية عدة كان وقعها على أصحاب هذه اللغات وكأنها من إبداع شعرائهم، لأن الحس الإنسانى هو الذى يعلو على القضية، ومن هنا تصلح أشعار «درويش» لكل زمانٍ ومكان.

هكذا كان الشاعر الذى طحنته سنوات الغُربة عن الوطن/الأم؛ عندما خرج بعد تضييق الخناق عليه، ففى إسرائيل أدركوا نبوغه واهتمامه بالقضية الوطنية مبكرًا منذ ستينيات القرن الماضى، وقبل أن يغادر مقر إقامته داخل إسرائيل 48، إذ كان يوصف فى الساحة السياسية والأدبية الفلسطينية بـ«شاعر القومية العربية»، ومن هنا بدأت مختلف أشكال المضايقات المادية والنفسية له، مما جعله يلجأ إلى الهروب ليواصل نضاله المعروف لنا جميعًا منذ وطأت قدماه أرض مصر بعد مغادرته أرض فلسطين، لتحتضنه إذاعة صوت العرب ويُعين فى منصب شرفى بها، ويحتدم الشجن على سن قلمه فيقول : «يحكون فى بلادنا/يحكون فى شجن/عن صاحبى الذى مضى/وعاد فى كفن»!.
ويعود هذا الشجن المقيم فى وجدانه منذ أيام الطفولة الأولى؛ إلى الإحراق الإجرامى لقريته، مخيمات اللاجئين، والمعارك الكبرى فى حياته ومواجهته للموت. إنه يبقى فى قلب السياسة رغمًا عنه، كما يُوضّح ذلك سفرُه إلى دياجير الموت، التى تحكى عنها قصيدته «جدارية» وعودته منه.
لقد كان درويش منخرطًا، منذ البداية، فى السياسة على نحو يحول دون تخلصه منها، ولكن عالم السياسة لم ينسه نبضات القلب الذى يموج بكل المشاعر الإنسانية الرهيفة؛ فجاءت إبداعاته مضفورة بالرمز للحبيبة/الوطن؛ والوطن/الحبيبة؛ لكنه أبدًا لم يبتعد عن الحنين للأرض رمز الخصب والنماء.
ولكن رغم التراث الشعرى الذى تركه هذا الشاعر فى حب الوطن؛ لم يسلم من بعض الهجوم عليه والتشكيك فى شاعريته.
لقد عاش هذا الشاعر على أمل تحقيق «الحلم» الذى وهبه كل إبداعاته الشعرية، ومات وتحت أهداب عينيه بقايا من هذا الحلم الذى ينادى فيه كل عربى بأن يزأر ويقول: سجل أنا عربى.. سلبتَ كرومَ أجدادى
وأرضًا كنتُ أفلحُها.. أنا وجميعُ أولادى.. ولم تتركْ لنا.. ولكلِّ أحفادى
سوى هذى الصخورِ.. فهل ستأخذُها/ حكومتكمْ.. كما قيلا؟
إذن سجِّل.. برأسِ الصفحةِ الأولى.. أنا لا أكرهُ الناسَ ولا أسطو على أحدٍ.. ولكنّى.. إذا ما جعتُ.. آكلُ لحمَ مغتصبى.. حذارِ.. حذارِ.. من جوعى.. ومن غضبى!
سلامٌ إلى روحك فى عليين.. نختلف أو نتفق معك.. لكنك ستبقى رمزًا للصمود وحرية الإنسان.