رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدستور.. وذكريات الألم والمحبة


عندما جلس أمامى قال إنه بحث كثيرًا عن رقم تليفونى، كان مرتبكًا لا يعرف ماذا يقول وكنتُ حائرًا أبحث فى أركان الذاكرة عن ملامحه وعن المكان الذى جمعنا، قال وهو يتحسس جيب الجاكيت إنه محرج وإنه يعرف الأزمة التى أعيشها منذ مرض زوجتى، وإن الظرف الأبيض الذى خرج أخيرًا من جيب الجاكيت رد لجميل قديم!!

وبدت علامات الدهشة على ملامحى فحكى لى عن مبلغ «عشرة جنيهات» دسستها فى جيبه منتصف التسعينيات وكيف كان يعيش حالة ضيق وهو يشاهد أحلامه تضيع فى العمل بالصحافة بسبب غطرسة رئيس تحرير، يومها كان تائهًا وحيدًا فى القاهرة الواسعة الغليظة القلب فاستجار برحاب السيدة نفيسة وجلس يبكى قبل أن يضع شخص يده على كتفه ويأخذه للعمل فى محل لبيع ملابس الأطفال، وها هو أصبح صاحب ثلاثة محال وبين أصابعه ظرف أبيض حان وقت تقديمه لجميل لا أذكره ولم أنتظر ردًا لما يراه هو جميلًا قديمًا وما رأيته أنا آية من آيات الله التى تتجلى لنا حين نقع فى تجارب كبيرة كالمرض أو رحيل أحد الأحبة، فالحياة قصيرة والدنيا صغيرة ولا شىء يساوى شيئًا، ولا شىء يبقى سوى محبة الناس.

خمس سنوات تقريبًا ابتعدت عن المهنة باختيارى الكامل وإيمانى الراسخ بأن كل كلمة نكتبها هى «ضمير» ولا يجوز خيانة الضمير بالكتابة فى أماكن وصحف لا تشبه طبيعة هذا الضمير الذى وضعته لنفسى، وجاء اتصال الصديق «محمد الباز» وأنا يائس تمامًا من فكرة «العودة»، ولأنه يعرفنى جيدًا فقد قالها واضحة: «هذه تجربتنا الخالصة»، وقبل أن أسأل أجابنى بأن سقف الكتابة غير محدود وسنفعل كل ما نحلم به، وأنه جاء الوقت لنبدأ تجربة دافئة نصنعها سويًا.. و«سويًا» هذه لا تقتصر عليه وعلى شخصى الفقير لكنها تمتد إلى الصديق والشاعر محمد العسيرى ومجموعة كبيرة من أجيال مختلفة عملتُ مع بعضهم وأعجبتنى تجارب البعض الآخر، واحتفظت بذكريات جميلة مع عشرات منهم، فهنا أجيال تتعلم من بعضها دونما غرور أو كبرياء أو عنجهية فارغة تسببت فى تشتيت أجيال صحفية وفى هجرة موهوبين وواعدين، ومع الساعات الأولى للعمل تسرب الدفء القديم إلى أوصالى وابتسمت للقدر والأيام التى أعادتنى فى هذا التوقيت ومع هذه التجربة التى أتمنى أن تكتمل وتضيف إلى المهنة وتقدم جيلًا جديدًا.