رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التبعيـَّـة .. سياسة واقتصاد !!


تعالوا بنا نتلمس الخطي الوئيدة نحو تفسيروترجمة مصطلح "التبعيَّة"، وأنا أعرف سلفًا أن هذا اللفظ أو المصطلح سيقودني إلى مفترق طرق عديدة؛ بعضها كحقول الألغام التي لاتتحمل وطء قدميَّ ولا قلمي؛ وبعضها وثيرًا كالوسادة المخملية المبطنة بريش النعام . وتعالوا بنا قبل أن ندلف إلى التعريف والتصنيف والفرزللتفرقة بين الألغام والحرير، نتعرف إلى بماذا تفسراللغة هذا المصطلح؛ وكيف أنه حمَّالاً لكافة الأوجه والتوجهات .. فالتَّبَعِيَّةُ : كون الشيء تابعًا لغيره، وهناك مصدر صناعيّ من "تَبَع" : جنسيّة ومُواطَنَة أو انتماء إلى دولة ما، يكون للمواطن فيها حقوق وامتيازات، وبالمقابل عليه واجبات لاتؤمن بسياسية التبعية لأية كتلة غربية أو شرقية، فنقول بالتَّبعيَّة : أي تبعًا لشيء آخر، أما التفسير المخملي فيقول :التَّبعيَّة : ( الفلسفة والتصوُّف ) ملازمة التَّابع لمتبوعه، وهو منهاج أهل الصوفية ومريديها، وحقل الألغام يقول : سيطرة سياسيَّة تملكها دولة قويّة على دولة أخرى تابعة، ويتشدقون ليل نهاربأن الأُمَّةُ العربيَّةُ ترفض أشكال "التَّبعيَّة" جميعها، ولكن دعهم يقولون ! ، فلقد لخص المسألة برمتها الشاعر العربي الكبير/نزار قباني في مقولته الشهيرة ذات قصيدة : "وليس حدادًا بينكم يصنع السيوف"، أي أن الرجل كان صريحًا وواقعيًا؛ ونبهنا بأنه ستظل رقبة من لايصنع سلاحه في يد "الحدَّاد" الذي يصنع السلاح وتابعًا له، ولكن لم يئن الأوان لنتلامس مع هذا اللغم .

وغالبًا ماتأتي هذه التبعية "جبرًا" .. لا " طوعًا" !! لأن عوامل الفقر وعدم الاستقرارالسياسي والتخلف فرضته القوي الاستعمارية ؛ باستنزاف الدول التي تقع تحت سيطرتها عسكريًا واقتصاديًا وفكريًا، واستغلال مواردها البشرية والطبيعية أسوأ استغلال . ومع المد الثوري في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي؛ وبفضل زعماء المرحلة الرافضين لكل أشكال التبعية السياسية والاقتصادية والفكرية؛ خرجت إلى الوجود مجموعة "دول حركة عدم الانحياز" التي نبعت فكرتها من بنات أفكاررئيس الوزراء الهندي "جواهرلال نهرو" والرئيس المصري "جمال عبد الناصر" والرئيس اليوغوسلافي "تيتو"، وتعد حركة عدم الانحياز واحدة من نتائج الحرب العالمية الثانية ( 1939-1945 )، وتأسست الحركة من 29 دولة، وهي الدول التي حضرت مؤتمر باندونج 1955، والذي يُعد أول تجمع منظم لدول الحركة، وكان الهدف الأسمى هو الخروج من عباءة التبعية القميئة للدول الاستعمارية الكبرى، ومحاولة جادة لاستتباب النظام الديمقراطي الحديث؛ الذي يعد من أكثر الأنظمة نضوجًا وموضوعية في التعامل مع أهداف ومشاكل الجماهير، وحتى يعثرعلى نظام أكثر تطورًا لصالح الشعوب المغلوبة على أمرها، والابتعاد بها عن كل أشكال التبعية التي تهدر الكرامة وتنتزع أدنى مباديء الحرية والكرامة الإنسانية .

ولكن ماالحيلة والدول العربية ـ حتى البترولية منها ـ تعيش راضية هانئة بالتبعية المُخزية للدول الكبرى في العالم، والسبب في هذه التبعية هو ضعف اقتصاديات باقي الدول العربية غير البترولية، الأمرالذي يترتب عليه تبعية حتمية تفرضها شروط المعونات والقروض التي تقدمها الدول الكبرى للدول العربية الفقيرة؛ فالتبعية الاقتصادية يترتب عليها تبعية سياسية ـ بالضرورة ـ بالتأثيرعلى صناع القرارفي معظم الدول العربية ـ والمثل العبقري الخبيث يقول : إطعم الفم .. تستحي العين ! وتحت ظلال هذه الأنظمة العربية التابعة، يعيش المواطن العربي زاحفًا لاهثًا وراء تحصيل لقمة عيشه، ومحاولة إيجاد الدواء لمريضه، وقسط من التعليم لأبنائه الذين قدرلهم أن يتعلموا، وأما أولئك الذين لم يتعلموا وهم كثر، فإنهم يكونون رهينة الجهل والأمية والفقرالمدقع؛ وليصبحوا لقمة سائغة في فم المتربصين لتجنيدهم ضمن خلايا الإرهاب والدمار .

تلك هي بعض ألوان التبعية السياسية الدنيوية ـ إذا جازالتعبير ـ بخلاف مظاهرمتعددة من التبعية الروحية المحمودة لمختلف العقائد الدينية السماوية ـ إذا جاز التعبير أيضًا ـ كالتابعين معتنقي بعض قواعد الطرق الصوفية بنقائها وصفائها الروحي بلا أطماعٍ دنيوية قصيرة النظرفي منصب أو سلطان؛ ويكون هذا بمشروطية الوقاية والابتعاد عن الانحرافات؛ أو الانخراط في سلك الأحزاب أوالتكتلات السياسية . أما أصحاب التوجهات الدينية المتشددة نوعًا؛ فيجب أن تكون تبعيتهم مصدرها ومستندها كتاب الله وسنة رسوله"صلى الله عليه وسلم"؛ وإلا كانت تبعية باطلة مردودة على التابع، لا يقبلها الله ولا عباده المخلصون، الذين يحبون ما أحب الله ويكرهون ما يكره الله عملا بقوله تعالى : "اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ" سورة الأعراف (3) .. وهؤلاء أيضًا يجب ألا ينحرفوا عن تلك التبعية لله ورسوله، كما نرى أشكال من هذا الإنحراف لبعض الأطياف التى تتسلل على سطح الحياة المصرية والعربية، في محاولة فرض "الفاشية الدينية" على المجتمعات التي تعمل داخلها .

فهل آن الأوان للانتفاضة والاستفاقة؛ وخلع عباءة تبعية الرق والاسترقاق؛ ولدحض المقولة التي تدعو إلى الإحباط ؛ وهي أن العرب " اتفقوا على ألا يتفقوا " !!، ولتظهرإلى الوجود السوق العربية المشتركة؛ وهي حلم كل العروبيين الشرفاء الذين يعرفون قدرهذه الأمة؛ وبأنها خيرأمة أخرجت للناس، كي نودع هذه التبعية الخانعة إلى الأبد، وليعلموا علم اليقين أن اللجوء للتبعية الغربية أو الأمريكية على وجه التحديد، كمن يلجأ إلى ظلال شجرة يابسة في هجيرشمس الصحراء .