رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى انتظار.. الثورة الإدارية!


الغريب أن مفهوم «الثورة الإدارية» عند البعض، يقتصر على نظرة سطحية ساذجة؛ غايتها تشييد البنايات الشامخة العملاقة للوزارات السيادية والمصالح الحكومية، وخضوعها للتصميمات الحديثة والمداخل الرخام والسجاجيد الحمراء المفروشة تحت أقدام المسئول من «باب السيارة» إلى «مقعد المنصب»، دون النظر إلى بناء الإنسان.

مبضع الجراح .. يقوم بالبتر فورًا!! لأن العضو المتقيـِّح فى الجسد سيقضى على الجسد وصاحبه فالاستغناء عن إصبع هُنا أو قدم هناك سيحافظ على عقل وفكر صاحب الجسد! فما بالنا لو كان هذا الجسد: دولة بأكملها؟ فكل من يتعامل مع أجهزة الدولة بمصر يعرف أزمة الإدارة ومشاكلها المتنامية، حيث تعانى الأجهزة الإدارية فى الدولة من الترهل والتخلف والجمود والروتين الذى يكبِّل «المراكب السايرة» على رأى المثل الشعبى، وهذا الترهل هو المسئول عن تفشى الفساد؛ واستغلال الثقوب فى ثوب القوانين الموضوعة بحرفية من قبل «ترزية القوانين»، محترفى تفصيله بما يتراءى لهم، ولعلمهم المُسبق أن الدائرة ستدور ويتم تطبيقه عليهم فى حال إحمرار عين السلطة تجاههم، وهذا ماجعل العامة من الشعب يتندرون ويتفاكهون بمقولة: «إن القوانين وُضعتلكى تُخرق، وأن القانون كالحمار الغبى تستطيع أن تركبه وتسير به حيث تشاء»، ناهيك عن تراجع معدلات الأداء والإنتاجية فى المصالح الحكومية والوزارات السيادية، وتذكر الإحصائيات أن أداء الموظف المصرى فى ظل هذا الروتين فى اليوم لا يتجاوز الساعة . والعجيب أن كلمة «روتين» هى ترجمة حرفية لكلمة «نظام»، إلا أن هذا الـ«نظام» العقيم لم ينله التعديل أو التطويرمنذ وضعه الاحتلال الإنجليزى لمصر، ونحتاج إلى سنوات وسنوات لعلاج الشلل وتصويب الإعوجاج فى العمود الفِقرى للجهاز الإدارى للدولة؛ والتى تم تجريف كل شىء جميل فيها على مر سنوات خلت، وننتظر صاحب القرار الذى يغامر ويقترب من كهوف هذا الجهاز، ومن يجرؤ بشجاعة وجسارة على التقدم لتعليق «الجرس» فى رقبة القط؟!

والغريب أن مفهوم «الثورة الإدارية» عند البعض، يقتصر على نظرة سطحية ساذجة؛ غايتها تشييد البنايات الشامخة العملاقة للوزارات السيادية والمصالح الحكومية، وخضوعها للتصميمات الحديثة والمداخل الرخام والسجاجيد الحمراء المفروشة تحت أقدام المسئول من «باب السيارة» إلى «مقعد المنصب»، دون النظر إلى بناء الإنسان الذى سيجلس على هذا المقعد! فما الفائدة المرجوة ـ مثلاً ـ من بناء ملاعب رياضية عصرية مجهزة بأحدث الوسائل التكنولوجية، وبكل الأدوات والآلات وقاعات الجيمانزيوم وحمامات البخار، ولكن هل هذه الأبنية الفخمةـ دون تجهيز المدرب والإدارى الكفء ـ تكفى لصنع «بطل رياضى» صاحب سجل حافل بالميداليات القارية والأوليمبية والمحلية؟ وهل يكفى تشييد «عاصمة إدارية» ـ على أحدث الطُرز المعمارية ـ لامتصاص الازدحام داخل العاصمة الكبرى، دون إيجاد كوادر الإصلاح المالى والاقتصادى؟ هؤلاء الذين يضعون استراتيجية محددة واضحة المعالم يدفعون بها إلى الكوادر الإدارية المدربة للتنفيذ، وهى الكوادر التى تُعد بمثابة المدربين فى المثال الرياضى، وهنا سنجد المدير والموظف والعامل الأكفاء، مع إعداد مراكز الصيانة المتقدمة لتلك المنشآت، وحتى لا تقف تلك البنايات الشامخة شاهدة على الفشل والموت كشواهد القبور!

إن بيت الداء يكمن فى جوهر الأشخاص لا البنايات، فدرجات سلَّم النجاح تقع على مقدرة أعناق الرجال على التحمل والصبر والجلّد والإيمان التام بالوعى بالرسالة المقدسة نحو الإنسان والإنسانية، فالقضاء على الفساد يبدأ بارتفاع معدلات القدرة لدى من يتصدى للتغيير؛ والتخلص من الموروث العثمانى والمملوكى المتغلغل فى ثنايا المجتمع وجنباته، وحملة القضاء على الفساد تتصور أن الطريق الوحيد لتحقيق هدفها هو ضبط الفاسدين ومحاكمتهم .. هذا ربما أقل الوسائل فعالية، فالقبض على فاسد يحل محله فورًا فاسدٌ آخر، فقائمة الفساد لا تنتهى، والقضاء على الفساد مستحيل، والهدف دائمًا محاولة تقليل الفساد إلى الحد الأدنى، ولكن فى الحقيقة فإن الحلول الناجعة هى فى تطبيق علوم الإدارة الحديثة، وفتح كليات متخصصة لها، وتنظيم مئات الحلقات الدراسية للموظفين لشرح أبعادها وآثارها الإيجابية على المنظومة ككل، أى خلق كوادر قادرة على ممارستها، وأهم عنصرين لتحقيق ذلك بإصدار قوانين تعيد هيكلة التنظيم الإدارى على مستوى القطاعين الحكومى والخاص؛ تؤدى إلى تحطيم المركزية المطلقة التى تدار بها مصرعبرالتاريخ بتطبيق العنصرالأول بتحريرالمؤسسات من السلم البيروقراطى الطويل جدًا من المركز حتى المؤسسات السيادية التى ينبغى أن تتمتع بالاستقلال، فمثلاً حل مشكلة قلعة «ماسبيرو» وكهوفها بمنحها استقلالاً تامًا، مع مراعاة الترشيد من آنٍ لآخربحسب النتائج والمعطيات، فأوروبا منحت الجامعات استقلالاً تامًا عام 2010، وحتى الآن جامعاتنا تتعثر وتفقد هويتها فى ظل المركزية، كذلك المجالس المحلية يجب أن تستقل وتعود لنظام البلديات قبل 52، كذلك المحافظون يجب أنيختارهم الشعب بالانتخاب ....إلخ، أما العنصر الثانى فهو حتمية وجود الإدارة الديمقراطية التى لاتركز السلطة فى يد المديرين عند اتخاذ القرارات.

الأمر يطول شرحه ولكن الحل ثورة إدارية تقضى على موروثاتنا العثمانية فى الإدارة، ومن هذا الموروث البعيد مثلاً المرسوم الهمايونى الخاص بقيود بناء الكنائس، وأما الموروث القريب فهو المادة الثانية من الدستور ومادة ازدراء الأديان وقانون الطاعة الذى يجبر الزوجة على العيش مع من لا تطيق! باختصار القضاء على الفساد يحتاج لتخلصنا فورًا من ثقافة العصور الوسطى ورفع القيود والأغلال التى تكبِّل مسيرة الوطن نحو المستقبل. كل الرجاء ألا يطول بنا الانتظار فرغبتنا ملحة فى حياة أفضل خالية من الترهل!