رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نظرات في حياة العقاد

جريدة الدستور

لقد كنتُ من قبلُ لا استصيغ قراءة السير الذاتية ولا تروقني اطلاعها، إذ كنتُ أراها ثرثرة يرويها أصحابها لا تنفع ولا تضر، فهي كلام لا يخص أحدا غير صاحبه وكاتبه، وربما اتسعت الدائرة قليلا فشملت أقربائه ومعارفه، لكنني وجدت الحق خلاف ذلك بل علي عكسه تماما، لاسيما إن كان صاحب السيرة عبقريٌ وصاحب عبقريات، أديبٌ وصاحب ديوان ومقالات ومؤلفات.

وبعد تصفح سيرة حياته أدركت أن الاستفادة من تجارب الآخرين لاسيما المفكرون منهم والفلاسفة والعباقرة عند قراءتها والاطلاع عليها أمر حاتم لازم، فتؤثرك تجربتهم دون أن تدري، وتؤثّر فيك حياتهم وأنت تدري، وبالأخص إن كانت هذه السيرة عرضا لكاتبٍ هو الأشهر في القرن المنصرم .

إنه العقاد الذي يقول في وصف نفسه: "أديب مشهور وليس بليسانس ولا دكتور،عضو في مجلس الأعيان وليس في حوزته نصف فدان فكما هو فقير لكنه ليس بهيّنٍ ولا حقير، صاحب قلمٍ مسموع الصرير لكن ليس بصاحب صحيفة ولا برئيس تحرير"

لقد عُرف عن العقاد بأنه بالغ في الصدق مفرط في الصراحة، حتي لقد جنت عليه تلك الصفتين الكثير من الأعداء تسبب في الكثير من المعارك الأدبية .

لكننا رأينا العقاد يدافع عن نفسه من تهمة الغرور هذه التي شاعت عنه فيقول :"أقسم بكل ما يقسم به الرجل الشريف أن هذا الرجل يقصد الذي يصفونة بالكبرياء، والقسوة والجفاء، لا أعرفه ولا رأيته ولا عشت معه لحظة، ونقيض ذلك هو الأقرب للصواب بيد أنني إذا عُومِلت بالتسامح لا أبدأ بالعدوان أبدا فإذا هاجمني أحد فلا أرحمه".

لقد وصف الكثيرون العقاد بأنه كثير الاعتداد بنفسه، والاعتزاز بذاته شديد الأنفة والعصمة والترفع والإباء حدا يفسر لنا أنه عندما أراد أن يدون سيرته الذاتية، دونها في كتاب أسماه "أنا" بضمير المخاطب الفرد.

ولقد دوّن العقاد في كتابه "أنا" خلاصة تجاربه في الحياة، التي كانت قاسية أحيانا ومثيرة للإعجاب ومدهشة أحيانا أخري، ساقها العقاد عن خبرة شخصية كبيرة وعقل جبار وذهن يقظ، ينقل لك خبرته وقد استفاد منها أتم الفائدة بعد فكر وروية وتمحيص، حتي وكأنها الحكمة البالغة في قالب أدبي أوأنها الموعظة العالية في قالب قصصي .

إن شخصية كالعقاد جديرة بالاهتمام ومعرفة جوانبها الشخصية والنفسية، لاسيما للمهتمين بالفكر والأدب والثقافة فتري فيها كيف يقرأ؟ وكيف يكتب؟ وكيف يؤلف؟ ويخبرك كيف كان يتعامل مع أعداءه وخصومه؟ وما موقفه من الأدب والفن والحب والمرأة؟ وما فلسفته تجاه الدين والحياة والكون والله والإنسان؟

ومن تصفح جوانب حياة العقاد النفسية نجد أن له فلسفةً في الحياة كانت بمثابة الدستور الذي لا يحيد عنه في مواقفه قدر مادة واحدة منه، ولقد كان هذا طبيعي أن تبلغ فلسفته في الحياة أحيانا حد الغرابة، إذ كان يحيا حياة العزلة والانطواء، حتي أنه ضرب مثالا في فضل العزلة حد يبلغ الطرافة فيقول :" لو أنني أردت امتحان الأقوياء من الرجال لتركتهم فترات في مكان مغلق يقضون فيه ساعات فراغهم، فمن صبر علي هذه الساعات فهو رجل ملآن بقوة الفكر وقوة الخلق وقوة الاحتمال، ومن لم يصبر عليها فهو فارغ لا خير فيه".

ومن أسباب النجاح التي نستشفها من تصفح سيرة العقاد نجدها متمثلة في ثلاث نقاط، الأولي: إيمانه بنفسه ورغبته الصادقة في النجاح، فهو لا يتصور أحدا ينجح في عمل لا يرغب في نجاحه.

والثانية: تقديسه للوقت تقديسا بالغا، فيقول في شأن الوقت "إن الذي يعرف قيمة وقته يعرف قيمة حياته، فإن من ملك وقته فقد ملك كل شيء".

أما الثالثة: فهو شغفه بالكتب والقراءة الاطلاع, وقد يَسأل سائِلٌ ما سر شغف العقاد بالكتب وشهوته للقراءة والاطلاع شهوة لا تفترأبدا؟ فيقول: "إنني أهوى القراءة لا لإنني زاهد في الحياة، بل لأن لدي حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، فالكتب هي التي تجعلنا نطل علي حقائق الحياة ولا تغني النوافذ عن النظر كما لا تغني الكتب عن تجارب الحياة".

و يقول أيضا في تفسير نهمه بالقراءة: " لا أظن أن هناك كتبا مكررة، لأنني أعتقد أن الفكرة الواحدة إذا تناولها ألف كاتب أصبحت ألف فكرة".

ولما سئل العقاد عن أجمل أيام الحياة قال :" يوم تملك فيه نفسك، فإما أن تكون الحياة جديرة بأن نحياها, وإما أن يكون الموت جديرا بأن نموته".