رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إهدار الحقوق فى الأعمال الفنية


مع فنجان قهوتك الصباحية وبين يديك صحيفتك اليومية، تستطلع «المانشيتات» وتبحث عن عامود كاتبك المفضل، أو عن نجمك الأثير فى صفحة الرياضة، أو الجلوس أمام شاشة السينما أو التليفزيون كى تشاهد عملاً فنيًا جذب انتباهك، فإنك بالتأكيد تستمتع بكل هذه اللحظات ـ التى ربما تأخذ حكم العادة ـ فى برنامجك اليومي...


... ولكنك لم تقف برهة لتسأل عن حُبَيْبَات «البُن» التى احتواها فنجانك، أين زُرعت ومن أى بلد أتت، ولا عمَّن قاموا بتصفيف حروف اللغة فى مطبعة صحيفتك حتى امتثلت بين يديك، ولا عن دورالصحفيين «المصممين» باعتبارهم يمثلون وقود الإصدارات، من واقع أنهم يقدمون أفضل وأجود الأشكال التصميمية لإنزالها على واقع المواد الصحفية، كى يكون الشكل النهائى جاذبًا للقارئ، ولا عن أداء «سفرجية الهجوم» الذين قاموا بـ «التخديم» على نجمك المفضل، حتى أوصلوه إلى منطقة مرمى المنافس ليُحرزالهدف ليحظى بالتصفيق والهُتاف، ولا عمَّن قام بإخراج الفيلم الذى شاهدته واستمتعت به منذ لحظات، فإننا نحيا بكل خلجاتنا فقط مع ماينطبع على شاشة الذاكرة فى اللحظات الأخيرة الفارقة، ولتكتشف أن ما بقى فى الذاكرة هو ماكُتب بالبنط العريض لاسم المُخرج أو نجم العمل ، وغابت تمامًا أسماء جيش العاملين خلف العمل، بداية من المؤلف، وكاتب السيناريو والحوار، ومدير التصوير ومساعدوه، ومعدِّى مناظر الديكور، والريجيسرـ وهو الشخص الذى يعد همزة الوصل بين المخرج والمنتج، حيث يكلفه بإحضار ممثلين ذوى مواصفات خاصة وكومبارس بملامح محددة ـ، والمكياج، والميكساج، والموسيقى التصويرية والألحان والتوزيع الموسيقي، والمونتاج، والنيجاتيف، والتحميض والتوزيع، وطاقم الدعاية والإعلان، وصولاً إلى قارع الخشبة الشهير برجل «الكلاكيت»، وهذا لايعود لضعف ذاكرتك ـ كلاَّ وحاشا ـ ولكن لأنه تم عرضه سريعًا وبالبنط غير المرئى وباللغة الأجنبية أو حتى بالعربية، ولكن بحروف لا يسعفك النظر بمتابعتها، وكأن «البطل» الأوحد والوحيد للعمل الفنى هو من يظهر على الشاشة بوضوح سواء كان نجما لفيلم أو مغنيا لفيديو كليب والباقى نكرات! تمامًا كما يحدث فى المعارك الحربية، فالخلود والتمجيد والأوسمة لاسم قائد المعركة الحربية المنتصر، ولا ذكرى ولا وجود لأى من الأبطال الأحياء أو الشهداء الذين حققوا لهذا القائد نصره المظفر.. إلا من رحم ربى.

وأريد أن أوعز هذا إلى ثقافة شعبنا المصرى والعربى المتجذرة فيه منذ عهود الفراعنة والمماليك وجيوش العثمانلية والاحتلال المتعاقب من كل الأجناس، التى ذكرت اسم «خوفو» ـ على سبيل المثال ـ وضاعت فى كثبان الرمال أسماء وجثث ملايين العمال الذين شاركوا فى البناء تحت نيركرباج السخرة والقهر، ويُذكر أن الفرعون «إخناتون» كان يأمر جيوش العبيد بالسجود للشمس فى عنفوان هجيرها، وهو قابعٌ مع جواريه تحت الظلال الوارفة.. أو ليس هو الحاكم الآمر؟ بلى .. وليذهب إلى الجحيم، وليسقط من الذاكرة والتاريخ كل من ساهم بجهده وعرقه، فى زوايا وهوامش سجل النسيان الذى لن يذكره أحد!

هذه الثقافة المُحبطة للخلق والإبداع، لابد أن تتغير وتتعدل مفاهيمها لدى أفراد المجتمع، حتى يشعر كلٌ فى مكانه بأنه يحظى بالتقديروالإعزاز، والاعتراف بأن دوره ـ مهما صغُرـ فهو لبنة فى البنيان الشامخ لن يكتمل إلا بوجوده ، شأنه شأن باقى المشاركين فى العمل الفنى والإبداعى، وحتى لاينعكس هذا بالسلب على النفوس المبدعة الخلاَّقة، وتحضها على الابتكار والتجديد لإضفاء اللمسات الجمالية على كل خطوة، فى سبيل خروج العمل الفنى فى أكمل وأبهى صورة جمالية ممكنة، فكل هؤلاء الجنود المجهولين لابد من وقفة جادة لإنصافهم وتقديرهم التقديرالأمثل، والإضاءة الكاشفة على مجهوداتهم العظيمة، وحتى لا يصُب عرقهم فى أنهار فرعية مجهولة تذهب إلى الضياع فى بحار النسيان.

فقد رأينا كيف تتعامل دولة كبرى مثل اليابان مع تكريم مهنة «عمال النظافة»، فقد أعدت الدولة اليابانية مهنتهم من المهن المهمة التى تقدرها معظم الدول حول العالم، فالحكومة تعمل دومًا لرفع مستوى معيشتهم لما لها من دور محورى فى رفع الحالة المعنوية للمواطنين من خلال الحفاظ على مستوى نظافة الشوارع، أما فى الصين فيسمونهم مهندسى الصحة، وفى ألمانيا يعتبر أجر عامل النظافة من أعلى الرواتب بعد طبيب الأسنان، ولذلك اتجهت هذه الدول إلى اتخاذ خطوة رائعة فى إقامة نصب تذكارية فى الميادين العامة لعمال النظافة دليلًا على أن ماتقوم به هذه الشريحة مثمَّن عند الدولة ومن أهم المهن الحيوية فى البلاد.

وبهذا نكون قد أعطينا لكل ذى حق حقه دون منَّة من أحد عليه، وسوف يتجلى هذا العطاء الجليل إذا ما غرسنا تلك القيم النبيلة فى نفوس البراعم الصغيرة من الأجيال الصاعدة، وليشعركل فرد بمدى قيمته وتأثيره فى منظومة المجتمع، دون الإقلال والتحقير من شأن أى عمل يقدم على صنعه صغار السن، وليكون التشجيع هو الحافز والدافع المؤثر الإيجابى فى سيره على طريق الحياة بكل الثقة والشموخ.