رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على مدى التاريخ المصرى منذ أن نشأت الحضارة المصرية العريقة على ضفاف وادى النيل بفضل العبقرية المصرية الفذة، قدمت مصر– فى جميع المجالات –


جدل بيزنطى .. سوق عكاظ .. اختلط الحابل بالنابل!! كلمات طنانة محملة على اللغة العربية، للأسف لم يتوقف ـ معظمنا ـ للبحث والتقصى عن معانيها ومحاولة سبر أغوارها ودلالاتها ومراميها، ونتبادلها فى حواراتنا الحنجورية التى تنتهى بنا دائمًا إلى اللاشىء، والوصول إلى الطرق المسدودة المعوجة عن الصواب لنبدأ الهرطقات من جديد، ولكن بعد أن يكون ثوب علاقاتنا القشيب قد تمزق وتهرأ، وربما .. اختلط بالدماء!

وحتى لا نذهب بعيدًا.. فالمقصود أن نحاول الاقتراب أو التقارب بأفكارنا وعقولنا وأرواحنا من بعضنا البعض، ليستوى قارب المحبة والود على صفحة نهر الحياة ولا تعصف به العواصف والأنواء، من أجل مصالح ضيقة ونظرة قاصرة عن إدراك معنى التلاحم والتفاهم، لاستقامة المسيرة الحياتية داخل المجتمع، ولنصل إلى قناعة أن اختلاف الرأى كما يقولون ـ لايفسد للود قضية، وأن الاختلاف لايعنى الخلاف والقطيعة، وأن تسمح لك ثقافتك العاجزة عن الإقناع والاقتناع، بأن تغادر لغة الحوار غير مأسوف عليك، وتختنق كمدًا، ولا تجد إلا الهرب من المواجهة، وتضع يدك على مسدسك!!

فالجدل البيزنطى هو نقاش لا طائل تحته، يتناقش فيه طرفان دون أن يقنع أحدهما الآخر، ودون أن يتنازل كلاهما عن وجهة نظره، مما قد يؤدى إلى اختلال فى التوازن الفكرى لدى أحد الطرفين، أو ربما كليهما. يُنسب هذا الجدل إلى بيزنطة ـ عاصمة الإمبراطورية البيزنطية ـ التى عُرفت أيضًا بالقسطنطينية. ويُرجع المؤرخون أصول هذا التعبير إلى القرن السابع الميلادى، عندما شُغف مواطنو الإمبراطورية البيزنطية بالجدل اللاهوتى، ودرج البيزنطيون فى مجالسهم على الجدل حول عوالم ميتافزيقية، وكانت هذه الجدليات تلهب الأجواء بين البيزنطيين بمختلف طبقاتهم الاجتماعية والفكرية، غير أن ذلك لم يُجدِ نفعًا، واستمر الجدل فى الإمبراطورية البيزنطية حتى القرن الخامس عشر، وصارت مثلاً.

أما التندر بالإشارة إلى حوارٍ يشبه حوار الصُّم بكلمة: «كأننا فى سوق عكاظ»، فقد كان أحد الأسواق الثلاثة الكبرى فى الجاهلية، بالإضافة إلى سوق «مجنة» وسوق «ذى المجاز»، وكانت العرب تأتيه من أول ذى القعدة إلى يوم 20 منه، ثم تسير إلى سوق مجنة فتقضى فيه الأيام العشر الأواخر من شهر ذى القعدة ثم تسير إلى سوق ذى المجاز فتقضى فيه الأيام الثمانية الأولى من شهر ذى الحجة ثم تسير إلى حجها، وسكان سوق عكاظ الأوائل هم قبيلة هوازن وقبيلة عدوان. وسمى بهذا الاسم لأن العرب كانت تجتمع فيه فيتعاكظون أى يتفاخرون ويتناشدون. ويعد «عكاظ» سوقاً لكل البضائع المادية والأدبية، فإضافة إلى البضائع المادية كالتمر والسمن والعسل والخمر والملابس والإبل. فهو سوق للبضائع الأدبية، فيأتى الشعراء بقصائدهم لتعرض على محكِّمين من كبار الشعراء، معظمهم أو كلهم من بنى تميم. ومن المظاهر التى كانت تسود سوق عكاظ: المفاخرة والمنافرة بين الناس، وربما قامت حروب بسبب منافرات قيلت فى السوق، لتندلع نيران الحرب بين القبائل بسبب تلك الخلافات غير المجدية.. وما أشبه الليلة بالبارحة فيما نراه يحدث الآن من حولنا هذه الأيام فى عالمنا العربى، هذا العالم الذى يكاد لايجتمع على كلمة سواء .

وأخيرًا .. فقد قالت العرب ومازالت تقول: «اختلط الحابل بالنابل» فما معنى ذلك؟ هنالك عدة تفسيرات: ففى الحرب: قد يختلط الرماة بالسهام مع الرماة بالرماح، واختلط الحابل بالنابل أي: الحابل الذى يصيد بالحبالة، والنابل الذى يصيده بالنبل، فيُضرب ذلك فى اختلاط الرأى وتضاربه. وقيل: إن الحابل هم الذين يمسكون حبال الخيل والجمال فى الحرب. والنابل هم الذين يرمون بالسهام . وهناك تفسير أقرب إلى الصواب فى أصل هذا المثل، هو أن الراعى بعد موسم عشار الماعز يعرّب القطيع فيجعل المعاشير وهى «الماعزغزيرة اللبن» على حدة، وغير المعاشير على حدة ، وذلك ليبيعها، ويحتفظ بالمعاشير لتدر عليه أرباحا وفيرة، وتسمى المعاشير «حابل» وغير المعاشير «نابل»، ويحدث فى كثير من الأحيان أن تختلط مع غير المعاشير فيستاء الراعى ويقول: اختلط الحابل بالنابل، ويقال هذا المثل حين تختلف الآراء ويكثر الجدل، ويضرب عندما تتعقد الأمور و يتوه صاحبها فى دوامة الحيرة .

وخلاصة القول فى إيراد هذه التفسيرات اللغوية، لما نتعامل به فى لغة حياتنا اليومية، هو تجنب اتساع هوة الخلاف بين أصحاب الآراء السياسية والدينية والعقائدية والأدبية والفنية، وهذا لن يتأتى لنا جنى ثماره المرجوة، إلا بغرس المبادئ السامية فىنفوس الصغار والأجيال الجديدة، بتعلم أدبيات الحوار والمناقشة، وتقبل الرأى الآخر، ومقارعة الحُجة بالحُجة، ولا يكتفى بالتعليم والتلقين لهذه المبادئ، بل لابد من الخروج بها إلى حيز الممارسة الفعلية فى البيت والمدرسة والجامعة وسائر فصائل المجتمع على اختلاف توجهاتها، لتكون مقولة: التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر، مقولة حقيقية ذات نفع وتقدير لدى كل الشباب الواعد، ليؤمن بها عن قناعة تامة وممارسة واعية بكل جوانبها وآثارها، تصل بالمجتمع إلى قمة التحضر والرقى، دون ضيق أو تذمر من الخلاف فى الرأى، طالما كانت القناعات بعيدة ولا تمس جوهر المبادئ والمثل التى لا خلاف عليها ، وأن حرية الوطن وحدوده هى الخط الأحمر الذى لا يجب تجاوزه مطلقًا.