رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عودة «روح» المسرح المصرى


بدعوة كريمة من صديقتى الفنانة القديرة لبنى ونس ذهبت إلى مسرح الطليعة مع الأصدقاء والصديقات لمشاهدة إحدى المسرحيات التى يقدمها مسرح الطليعة. وفى طريقى إلى المسرح مر بى شريط الذكريات: لبنى ونس الصديقة الفنانة الرائعة. وقفنا معاً على مسرح الثقافة الجماهيرية عام 1986 لنتشارك بطولة مسرحية الدخان لميخائيل رومان، ومن إخراج المخرج القدير عباس أحمد...

... وعلى مدى سنة كاملة نلف بالعرض على مسارح الثقافة الجماهيرية فى معظم أقاليم مصر. إنها أيام وليال مسرحية رائعة، أنار فيها مسرح الثقافة الجماهيرية أضواء المسرح المصرى.

كنا نؤمن جميعاً بأهمية رسالة الفن والكلمة والإبداع، وعلى رأسها أبو الفنون: المسرح. تمضى بنا الأيام، ويتعرض المسرح المصرى فى البيت الفنى للمسرح، وقطاع الفنون الشعبية والاستعراضية والغنائية، والثقافة الجماهيرية. يتعرض المسرح إلى نجاحات وانتكاسات عبر سنوات الصعود والهبوط والانفتاح وتسليع جميع الخدمات وانسحاب دور الدولة من دعم أو إنتاج الفنالحقيقى.

وتمر فترة عصيبة شملت أواخر الثمانينيات وكل التسعينيات، تظلم فيها قاعات المسرح، ويتم الإلغاء الفعلى للنشاطات الإبداعية من مسرح وموسيقى فى المدارس، وتغلق فيها بعض مسارح الثقافة الجماهيرية أبوابها. ويغلق المسرح القومى أيضاًَ أبوابه، ويستمر جنود كتيبة الإبداع حاملين رسالة الفن بداخلهم، مدافعين عنها. ويستمر الشباب يحملون الأمل بداخلهم فى أن يجدوا يوماً ما وسط هذه الظروف موقع قدم ليقدموا إبداعاتهم.

وها هى ثورة يناير 2011 تطلق إبداعات المصريين التى أبهرت العالم فى الموسيقى والغناء والفن التشكيلى والرسم على الحيطان، والفن ميدان. وها هى الدولة تدرك أخيراً أن غياب المسرح فى المدرسة والمراكز الثقافية والشبابية فى المدن والأقاليم، وغياب الموسيقى والغناء، والثقافة بشكل عام، فتح الباب لانتشار الأفكار المتطرفة الظلامية. إن غياب الثقافة كان أحد العوامل الأساسية فى انتشار التطرف والعنف والإرهاب.

وها هى الدولة تتنبه أخيراً إلى أن مواجهة الإرهاب لا تكون بالأمن فقط، ولكن مواجهة الفكر الظلامى بالفكر التنويرى أيضاً. ورغم الظروفف الصعبة يستمر شباب المبدعين حاملين شعلة الفنون، مؤمنين بأن الفن رسالة تحمل متعة فنية وفكرية، وسلاح يلعب دوراً مهماً فى التنوير.

وتعود الليالى المسرحية بكل قوة فى هذه السنة. ويقترب عدد المسرحيات من عشرين مسرحية، ويعود المهرجان القومى للمسرح المصرى ليعيد الروح إلى المسرح. وتحصد مسرحية «روح»، والتى يقدمها مسرح الطليعة فى قاعة صلاح عبد الصبور، معظم الجوائز. إنها المسرحية التى ذهبت إلى مشاهدتها.

عندما دخلنا إلى القاعة وجلسنا، قالت صديقتى الدكتورة سلوى العنترى إننا كجمهور جزء من هذا العرض، نجلس فى القاعة ونشارك مع أبطال العرض. وأحسسنا جميعاً أننا نجلس «فى هذا البار» الذى تدور فيه أحداث المسرحية. وبالطبع هذه شهادة فى صالح فريق العمل، الذى يمتلك أدواته الفنية العالية والرائعة فى الإضاءة والديكور والرؤية الموسيقية والإخراجية.

عن نص «الوردة والتاج» للمؤلف ج. ب. بريستلى يقوم الدراماتورج ياسر أبو العينين بكل براعة، ومع المحافظة على روح النص الأجنبى، بتقديم نص يقترب من الجمهور المصرى، محلقاً عبر الزمان والمكان، واصلاً إلى روح الإنسان. وتحس من خلال العرض أنه يتكلم عن كل فرد منا من خلال الشخصيات التى قدمها العمل. لقد رأى كل فرد من الجالسين فى قاعة المسرح نفسه فى الفنانين المبدعين على خشبة المسرح.

إنها روح وصدق فريق العمل التى انتقلت إلينا، فصدقناهم وعشنا معهم وفكرنا وبكينا وضحكنا وعشنا معهم تلك اللحظة الفارقة من حياة الإنسان، لحظة الموت التى نقف أمامها متشبثين بالحياة رغم كل قسوتها ومعاناتها. وتذكرت وأنا أشاهد المسرحية العديد من الأشكال الفنية التى تناولت تلك اللحظة التى تتعرى أمامها الذات البشرية، ومنها: «سكة السلامة»، وأيضاً الفيلم الرائع «بين السماء والأرض» للعمالقة فى زمن الفن الجميل. ووجدتنى أهمس فى صوت عال: مصر ولاّدة، مصر بخير، لن يستطيع أحد أن يطفئ شعاع إبداعاتها. فها هم مبدعو ومبدعات مسرحية «روح» يصلون الأمس باليوم والغد، ويسعدوننا. ها هم يحركون أفكارنا ومشاعرنا.

لبنى ونس فى دور السيدة العجوز، تخطو على المسرح بخطوات واثقة وخبرات السنين الرائعة، ومعها الممثل الرائع القدير ياسر عزت بحضوره الطاغى، حتى وهو صامت، والمتألقة الرائعة غناءً وتمثيلاً فاطمة محمد على، والأداء المتمكن لكل فريق العمل: حسن نوح وسماح سليم وعمر عبد الحليم، وأحمد الرافعى، والشاب الصاعد نجمه فى المسرح والدراما التليفزيونية محمد عادل، الذى يملأ المسرح بحضوره وأدائه التلقائى الصادق العميق.

كل التحية والتقدير لكل الفنيين والقائمين على هذا العمل الرائع من ديكور وملابس محمد جابر، وإضاءة أبو بكر، وأشعار محمد زناتى، ورؤية موسيقية حاتم عزت. كل التحية والتقدير للمايسترو المخرج الشاب باسم قناوى الذى قاد فريق عمل روح بروح صادقة، فالتقت أرواح الفريق بأرواحنا جميعاً فى لحظة صدق.

قبل أن أنهى كلماتى أناشد وزير الثقافة السيد حلمى النمنم، ورئيس البيت الفنى للمسرح، ومدير مسرح الطليعة، أن تمتد عروض المسرحية أطول فترة ممكنة، وأن تتحرك إلى خشبة مسارح بعض المراكز الثقافية والشبابية ومسارح الثقافة الجماهيرية الملائمة لطبيعة العرض.

حينما تهل أشعة شمس الإبداع نستطيع أن نهزم الأفكار الظلامية الرجعية.