رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التعليم.. بين العقل.. والقلب.. والبـُنيان


فى الغد القريب ستدق الأجراس للانتظام فى الصفوف لتحية «العَـلَـمْ» ولنستمع إلى النشيد الوطنى، وكان ـ على أيامى ـ يهز جدران البيوت حول مدرستى، ولا أدرى الآن إن كان مازال يتردد بين جنبات الفصول، أم أصيب بالـ «خرس» والنسيان وضاع فى صخب أغنيات التوك توك وصيحات الباعة الجائلين حول أسوار المدارس التى غدت بين عشية وضحاها المراكز الرئيسة لتجميع «القمامة»، وأصبح الأمر لايعنى السادة المديرين أوالمدرسين الذين رأيت بعضًا منهم مع تلاميذهم على المقهى المجاور لضمان الدروس الخصوصية بالتقرب إليهم، وتلك هى مصيبة ما نطلق عليه مصطلح «تعليم» فى وقتنا الحالى. وبعقد مقارنة سريعة حول منظومة التعليم بين الأمس واليوم نجد أن البون شاسع، فطرح أمس كان النوابغ فى كثير من فروع العلم والمعرفة وصنوف الإبداع،يقابله اليوم فقر فى النابهين والموهوبين والمبدعين.. ترى ما السبب؟ بنظرة سريعة ندرك أن التعليم كان يهتم بمنظومة جسم الإنسان من عقل وقلب وبـُنيان.. فالعقل يغذيه بتلاوين من العلوم والمعارف والخبرات من خلال المواد الدراسية ومناهجها القائمة إلى حد كبير على إعمال العقل لا التلقين، فينشأ التلميذ على حب العلم بل يسعى من تلقاء نفسه إلى الاستزادة منه بقراءات ومطالعات خاصة بعيدة عن

مقراراته الدراسية؛ فينمو وعيه ويتسع أفقه إلى براح فكرى يسند ما تلقاه من مدرسيه.. وكانت الحصص التى تخاطب العقل تقف معها جنبًا إلى جنب ـ وبالأهمية ذاتها ـ مع مايخاطب القلب والوجدان من موسيقا وتربية فنية وتنمية للمهارات المختلفة ليُكتشف أصحاب المواهب من المبدعين ليعملوا على تنمية مواهبهم، فتقام المسابقات والمنافسات بين الفصول أو المدارس. وهذا إدراك كان ملموسًا وقتئذٍ فى حين تكاد تختفى هذه المواد الفنية فيما نراه فى مدارسنا اليوم فينظرون إليها نظرة دونية.

حيث يقوم المديرون بإلغاء هذه الحصص ويستبدلونها بحصص اللغات أو الرياضيات

إلخ، بل يصل بهم الأمر إلى تحويل غرف الموسيقا والتربية الفنية إلى فصول وليذهب مدرس الموسيقا وآلاته - إن وجدت - إلى فناء المدرسة ضاربًا كفًا بكف وهو من تخرج فى معاهد موسيقية وأنفقت عليه الدولة ليقوم بدوره التربوى المكمل فى تغذية وتربية الوجدان لأبنائنا منذ نعومة أظفارهم ؛ فبلا وجدان لاأخلاق تنمو ولا علم يـُبث. فالفن يُرقى الذوق والإحساس فلن نشكو من عدم احترام صغيرنا لكبيرنا، ولن نستمع إلى لغة الحوار المتدنية، وستنتشر المحبة والتراحم الذى يفوح من وجدان تربى وتغذى ببديع فن وإذكاء روحٍ. وأما بُنيان الطفل وجسمه فكان يُعتنى به، ومن منا لا يذكر التعبير الشهير: «العقل السليم فى الجسم السليم»، لذا كان الاهتمام بحصص التربية الرياضية «الألعاب» التى كادت تندثر اليوم لتلحق بحصص الفنون من إلغاء وإحلال مواد أخرى محلها فى الجدول الدراسى وخلو المدارس من الملاعب فينشأ الطفل ضعيف البنية معرضًا للإصابة بالأمراض ﻷنه لم يتعلم كيفية بناء جسمه،ويكتفى بلعب الكرة خارج أسوار مدرسته معرضًا حياته لخطر الدهس من السيارات المارة، ناهيك عما اعتبره جريمة شنعاء فى حق الوطن وهو التغافل ـ سهوًا أو قصدًا ـ عن تدريس مادة التربية القومية وعدم ضم درجاتها إلى المجموع الكلى، وهى المادة التى تعمل على تقوية أواصر الانتماء والولاء للوطن والحرص على متابعة مايجرى فيه من الأحداث التى تهم مستقبلهما معًا .. فالفرد بالوطن، ورفعة الوطن بالفرد المثقف الواعى.

إذن فلنترحم على الأيام الخوالى، حيث كانت المدرسة مصدر إشعاع خلاق لطلابها ولمن حولها من المربعات السكنية بالعلم والثفافة والمعرفة من خلال المكتبة الملحقة بها، أو بممارسة الأنشطة الرياضية فى ساحات ملاعبها التى تـُفتح بعد انتهاء اليوم الدراسى، ليمارس شباب الحى أنشطتهم الرياضية ويعقدون جلسات التعارف واقتراح الحلول لأى مشاكل تحيط بالمجتمع المدرسى والخارجى، على خلاف مانراه اليوم من تمديد فترات الدراسة إلى ثلاث فترات على مدار اليوم، ولا مجال لاستثمار أى أوقات لممارسة الأنشطة.

ودعونا لا نكتفى بالترحم على الأيام الخوالى ونحن نجلس القرفصاء ؛دون التقدم بخطوات إيجابية ـ ولو هنيهة ـ نحو الأهداف السامية التى نتمناها متحققة ونحن على مشارف عام دراسى جديد، وبرغم الكثير من الصيحات التى زلزلت صفحات الجرائد إلا أن المسئولين لم يحركوا ساكنًا ـ حتى اللحظة ـ نحو أى تغييرات أو تطويرات نجدها جوهرية للإصلاح! ولنا فى ماضينا مايسهم فى عملية النهوض بمستوى أبنائنا وتغذيتهم بما يرتقى بالعقل، ويسمو بالقلب والروح،ويُقيم البـُنيان، لنطمئن على مستقبلنا بين أيديهم. فهل نأمل بندائنا هذا فى أن يخيب الظن فيما قاله الشاعر الجاهلى «عمرو بن معديكرب»: لقـد أسمعت من ناديـت حيـَّـا .. ولكن لاحيـــاة لمــن تنــــادى

ولـو نـــارًا نفخـت لها أضاءت.. ولكــن أنـت تنفــخ فى رمــاد!

أستاذ الدراسات اللغوية ـ أكاديمية الفنون