رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

آه.. ما أجملك يا أيام الحج


يبدو أن النفس من شوقها للحج تتوق إليه وكأنها لم تحج !! فمنذ أعوام قليلة وعندما حطت الطائرة رحالها فى المدينة المنورة تهيأت نفسيًا لرحلة حج ترتفع فيها الإيمانيات وتتسامى فيها المشاعر، وسرعان ما غمرتنى دفقات نورانية عندما وقفت قبالة

قبر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث اهتزت شرايين قلبى وأوردته اهتزازا خُيّل لى من قوته أن قلبى يكاد يقفز من مكانه ليسلم بنفسه على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفى اليوم الأخير اجتهدت حتى أصلى فى الروضة الشريفة وأخذت أفسح لنفسى برفق حتى وصلت إلى محراب الرسول صلى الله عليه وسلم وصليتُ فى هذا المكان القدسى وأنا فى حالة شعورية فريدة حيث انتابتنى رعدة محببة وظل جسدى يرتجف آناء الركوع وأثناء السجود، وأظن وبعض الظن حق أنها رجفة لذة التعبد فى مكان سجد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولامست جبهته أرضه، ودعوت فى هذا المكان النورانى ما فتح الله لى به من الدعاء لنفسى ولمن طلب منى الدعاء ولأمة الإسلام والمسلمين، وسرعان ما انتهت أيام المدينة وكأنها كانت ما بين طرفة عين وانتباهتها.

وعندما وصلنا إلى مكة المكرمة رأيت الكعبة المشرفة من شرفتى فى الفندق، وسبحان الله الذى زاد هذه الكعبة بهاءً وتشريفاً وجمالاً فإنها تخطف القلوب وتدغدغ المشاعر فتُذرف الدموع، وفى طواف القدوم رأيت بجانبى أحد الملوك وهو يطوف وحوله ثلة من الجنود غلاظ شداد يفسحون له ويحيطونه من كل الجهات ويضيقون على الحجاج، فتعجبت من هذا الذى يحج تحت الحراسة المشددة، وإذا بأحد الحجاج يبتسم لى ويقول لا تعجب فإن كان هذا تحرسه الجنود فإن الملائكة تحرسنا فنحن فى معية الله وهو فى معية الجند. أما أعظم مواقف الحج فهى بلا شك فى عرفات وسبحان الله الذى جعل الوقوف فى هذا المكان هو شعيرة الحج الأعظم فرغم الزحام إلا أنك هناك لابد أن تكون فى حالة فريدة لا يمكن أن تتكرر فإذا أطلقت روحك ولم تكبلها أكاد أقسم أنك ستزاحم آنذاك الطير فى السماء، تشعر فى عرفات ورب الكعبة وكأن الرحمات تتنزل على المسلمين وكأنك ترى مغفرة الله ورحمته رأى العين بل وتكاد من فرط شعورك بالرحمة واختلاطها بقلبك أن تتلمسها وتعانقها معانقة المحب الذى اشتاق للمغفرة اشتياق الظمآن الذى لم يشبعه رى، ورغم المشاق بعد ذلك فى مزدلفة وفى منى وأثناء طواف الإفاضة والوداع إلا أن هذه المشاق لم تمح لحظات الإيمان وليس لها أن تفعل.

وإذا كان مشهد الحجيج وهم يؤدون المناسك من شأنه إذا رأيته بعينك أن يهتز فؤادك ويقشعر بدنك فما بالك إن رأيته بقلبك واندمجت فيه بكل جوارحك ؟ وإذا كان الطواف حول الكعبة مع ما فيه من مشقة الزحام والتدافع يرتقى بوجدانك إذا طفت وأنت مدرك لمقاصده ونسكه وفقهه فما بالك إذا طفت وأنت مستشرف حقيقته ونورانيته ؟ وإذا كان السعى بين الصفا والمروة مع الجهد الذى تبذله فيه يعيد لك تلك اللحظات التى عاشتها السيدة هاجر وهى تسعى بين الجبلين للعثور على نبع ماء يحفظ لابنها إسماعيل حياته فما بالك إن سعيت وأنت مدرك فوق هذا أنك تسعى فى توحيد الله بين لا إله إلا الله ومحمد رسول الله.. تسعى بين الربوبية والألوهية، وإذا كان رجم إبليس من مناسك الحج فما بالك إن رجمناه فى الحج وأكرمناه بقية العام فهل أدينا بذلك مناسكنا ؟ قال أحد الصالحين ( طهر قلبك من إبليس قبل أن ترجمه بالحصى ) وإذا وقفت فى عرفات وقد انشغل قلبك بيوم الوقوف الأعظم بين يدى الله فإنك سترمى الدنيا من قلبك وستنشغل بحالك عن حال الناس، أما إذا أقمت فى منى وشغلت نفسك ولسانك وقلبك بذكر الله فأنت فى معية الله ومن كان فى معية الله فهو حسبه حيث تهون الدنيا وما فيها وكأنها جناح بعوضة.

إنك إذا استشرفت مناسك الحج بقلبك واستقبلتها بفؤادك واندمجت فيها بمشاعرك فلن يكون هناك موضع لإبليس فى قلبك يحول بينك وبين قبلتك الكعبة المشرفة ولن يكون هناك رفث ولا فسوق ولا جدال، لن يكون هناك فى قلبك دنيا تصيبها أو مغنم تصبو إليه أو ناس تنشغل بهم عن ذكر الله.. لن تحرم نفسك من متعة قيام الليل والسجود لله آناء الليل وأطراف النهار.

ورغم ذلك فقد رأيت فى حجى الكثير من العجائب التى لم أتوقعها ولم تدر بخلدى على الإطلاق، فقد رأيت الإفراط فى استخدام الهاتف المحمول من كثير من الحجيج أثناء المناسك وفى الأماكن المقدسة وأمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا أحد الحجاج كان يقف بجوارى عند زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يمسك بهاتفه ويتحدث مع أحد أقاربه قائلاً له: أيوه يا حنفى أنا الآن أمام قبر الرسول فهل تريد أن أقول له شيئًا... حاضر يا سيدى سأقرئه لك السلام.. ثم يستطرد قائلاً: حنفى ابن سعدية يقرئك السلام يا رسول الله !!.

وأثناء الصلوات المفروضة كنت أسمع رنات الهواتف المحمولة بصورة تشوشر على المصلين رغم تنبيه الإمام بضرورة إغلاق الهواتف أثناء الصلاة، وأثناء الطواف حول الكعبة المشرفة كنت أرى عشرات الطائفين وهم يتحدثون فى هواتفهم وكأنهم فى نزهة، ثم رأيت العشرات وهم يقومون بتصوير الكعبة أثناء الطواف ثم يقومون بتصوير الأماكن المقدسة ومقام إبراهيم والحجر الأسود وحجر إسماعيل وكأنهم فى زيارة لمنطقة أثرية !! أما فى أيام منى فقد كان الزحام شديدا ورأيت عشرات المصريين ومئات من جنسيات أخرى وهم يفترشون الطريق لعدم وجود أماكن مبيت لهم، وكان الزحام يتسبب فى مشاكل عديدة تصل إلى حد التشابك بالأيدى وقد رأيت بنفسى معركة حامية الوطيس بين مصرى وهندى فى ساحة الحرم المكى حيث كانا فى سباق للشرب من ماء زمزم فتعجبت من الذى يؤذى أخاه المسلم ويريق دمه ليتبرك من ماء زمزم، مع أن شرب ماء زمزم بعد الطواف سُنّة أما الدم المسلم فهو حرام على المسلم كحرمة الكعبة أو أشد، والحفاظ عليه وحقن دماء المسلمين فرض، وأظن أن حال المسلمين فى موسم الحج هو انعكاس لحالهم باقى العام فالفوضى وعدم النظام هو السمة الرئيسية لهم، وإذا كان إماطة الأذى من الطريق هو شعبة من شعب الإيمان فإن هذه الشعبة غابت فى موسم الحج، وإذا كانت النظافة من الإيمان فلك أن تتحدث ولا حرج عن أكوم القمامة التى كانت تفترش الطريق فى عرفات حتى إنك تستطيع القسم دون أن تحنث فى قسمك أن من ألقى أكوام القمامة هذه قد افتقد شُعبة من شُعب الإيمان. .. هذه بعض خواطرى عن الحج وأيامه، ورغم أن مشاعرى الإيمانية هناك وأثناء المناسك وصلت إلى عنان السماء إلا أن هذا لا ينفى الأسى الذى اعترانى عن حال أمة المسلمين هدانا الله إلى طريق الحق