رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمل دنقل «المحارب».. فى ذكراه


ترى.. هل يستمد الإنسان سلوكياته ومواقفه الحياتية من اسمه الذى سجله أبواه فى شهادة ميلاده لحظة مجيئه إلى الدنيا؟ وما مدى تأثير هذا الاسم فى الأحداث التى يواجهها والانعكاس المؤثر بالإيجاب أو السلب على مواجهة المواقف فى معاملاته مع المجتمع الذى يعيش فيه اجتماعيًا وعقائديًا.. وبالتالى سياسيًا؟.....

وغالبية الظن أن هذا هو ماحدث حين جاء هذا الطفل إلى الحياة «1940» وسط أسرة صعيدية بقرية القلعة / مركز قفط على مسافة قريبة من مدينة قنا فى صعيد مصر، بعد أن منحه أبوه ـ فى لحظة حصوله على الشهادة العالمية من الأزهر ـ اسم «أمل» استبشارًا بهذا المولود الذى خرج إلى الدنيا ليعيش بين قصائد الشعر العمودى الذى كان يكتبه أبوه ويملك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربى؛ التى كانت المصدر الأول لثقافة شاعرنا: «محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل»، الذى نحتفل بذكرى رحيله هذه الأيام؛ بعد أن ترك لنا ماسيُعد تراثًا شعريًا للأجيال القادمة ومرجعًا موثـقًا لمعنى الحرية والتمرد على القهر بكل أشكاله : بدءًا من قهر فقرالأسرة وقهر التعليم المفروض على العقول، والقهر الذى كان يستشعره من السلطة حسب رؤية روحه المتمردة دومًا على الواقع المحيط به، وليجعل من لقب «محارب» الذى يحمله رمزًا دائمًا لمسيرة حياته المتقلبة بين الفقر ومسئوليته عن أسرة متكاملة ومذ رحل أبوه عن الدنيا وهو لايزال فتًى يافعًا فى العاشرة من عمره، الأمر الذى جعله يفر من كلية الآداب إلى وظيفة صغيرة بمحكمة قنا، بحثًا عن الحرية المنشودة التى تحدَّث عنها فى أشعاره البكر وحربًا شعواء عشقًا لالتزامه القومى وقصيدته السياسية الرافضة والتى تكمن فى خروجها على الميثولوجيا اليونانية والغربية السائدة فى شعر الخمسينيات من القرن الماضى، وفى استيحاء رموز التراث العربى تأكيدًا لهويته القومية وسعياً إلى تنوير و تـثوير القصيدة وتحديثها، إذ يبكى بين يدى الأسطورة» زرقاء اليمامة « ويستصرخها بأعلى الصوت!

وهو فى هذا لم يتخل أبدًا عن شخصية «المحارب» لكل أشكال القصيدة القديمة العقيمة ـ من وجهة نظره ـ متفقًا مع كل من تطلعوا إلى شعر الحداثة مبكرًا وأتوا بالمضامين التى تتفق ونظرتهم إلى دور الشعر وخطورة تأثيره فى وجدان الأمة التى تبحث عن الخلاص ـ وفى طليعتها الشعراء ـ من ربقة التحكم والسيطرة وسار فى دواوينه «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة - تعليق على ما حدث - مقتل القمر - العهد الآتى -. أقوال جديدة عن حرب بسوس - أوراق الغرفة 8 - على المنهاج نفسه.فكان هذا الفتى الملقب بالجنوبى الثائر / أمل دنقل.. الذى انكسر رمحه وهو على صهوة الفرس بانكسار الوطن بالهزيمة وشاهد بعينيه النصر وضياعه وصرخ ضد معاهدة السلام، ووقتها أطلق رائعته «لا تصالح» والتى عبر فيها عن كل ما جال بخاطر كل المصريين، ونجد أيضاً تأثير تلك المعاهدة وأحداث شهر يناير عام 1977 واضحاً فى مجموعته «العهد الآتي». وكان موقفه من عملية السلام سبباً فى اصطدامه كثيراً بالسلطات المصرية خاصة أن أشعاره كانت تقال فى المظاهرات على ألسن الآلاف، وهتف محذرًا الجميع: لا تصالحْ/ ولو منحوك الذهب/ أترى حين أفقأ عينيك / ثم أثبـِّت جوهرتين مكانهما..هل ترى..؟/ هى أشياء لا تشترى !/ لا تصالح على الدم.. حتى بدم !/ لا تصالح ! ولو قيل رأس برأسٍ / أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ / أقلب الغريب كقلب أخيك؟! /أعيناه عينا أخيك؟! وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك / بيدٍ سيفها أثْكَلك!

ورغم أنه كان المحارب الشجاع لكل مايخالف عقيدته الفكرية والسياسية والأنماط الشعرية، إلا أنه لم يستطع إعلان لحرب على السرطان الذى فتك به بالغرفة «8» بمعهد السرطان بالقاهرة، ليودِّع دنيانا 21مايو 1983.

فلا عجب اليوم لمن ترك كلية الآداب لظروفه الحياتية ولم يستكمل مشواره الجامعى.. أن يكون اليوم محل دراسات رسائل الماجستير والدكتوراه، ليظل سيرة ورمزًا مضيئًا للتمرد على القهر والفقر.. سعيًا إلى الحرية.

أستاذ الدراسات اللغوية ـ أكاديمية الفنون