رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدنيا ربيــع.. ولكن!


شم النسيم عيد مصرى أقدم من كل أعياد العالم.. يأتى هذا العام وقد تنسمت مصر نسيم الحرية التى يعبث فى ظلها العابثون، لكن الزبد يذهب جفاء ويبقى نسيم الحرية منبعثا من عطر دماء شهداء الثورة التى تتسم بالصبر على مكاره الزبد.. لنعيد لشم النسيم بهاء البهجة التى كانت مصر تعيشها فى حقبة الخمسينيات من القرن الماضى.

شعائر الفرحة للأطفال بالبيض الملون بلون أزهار الربيع والذى كان يشارك الأطفال فى تلوينه وتناول الأسماك المملحة وهى اختراع مصرى، والخروج قبل شروق الشمس للحقول الخضراء والحدائق لتنسم الأكسجين فى صورته الصحية: الأوزون.. حرمونا من الخضرة على شطى النيل بالمبانى الشاهقة والنوادى الفئوية القبلية التى حرمت معظم المصريين من احتضان النيل وشم النسيم على شطآنه الخضر.. وحتى نكون أوفياء ونحافظ على «الجينات» الوراثية التى فى دمائنا منذ عهد أجدادنا الفراعنة ونتيمَّن خطاهم فى احترام النيل وقدسيته ؛ كان على من يمثل بين يدى «عوزير» إله عالم الموت ومعه قضاة الموت، أن يبرىء نفسه من الكبائر الخاصة بالنيل بقوله: إننى لم ألوث ماء النيل ولم أحبسه عن الجريان فى موسمه ولم أسد قناة ومن المؤكد أن اعتبار تلويث النيل من كبائر الذنوب، هو تعبير مكثف ورائع عن مدى حرص المصريين على الحفاظ على النيل باعتباره مصدر الحياة للزرع والضرع والبشر فى مصر.. ولهذا أطلقوا عليه اسم «حابى» ومعناها إله الخيروالنماء، وأطلقوا عليه أيضًا اسمه الجغرافى: «إترو ـ عا» ويقال إن كلمة «ترعة» اشتقت من تلك التسمية الفرعونية القديمة، فالفراعنة العظماء لم يقوموا بالاختيارات العشوائية لكل طقوس الطعام فى هذا اليوم للاحتفال بعيد الربيع.. فاختاروا «البيض» ليرمز إلى خلق الحياة من الجماد، وقد صوَّرت بعض برديات منف الإله «بتاح « – إله الخلق عند الفراعنة - وهو يجلس على الأرض على شكل البيضة التى شكَّلها من الجماد.. ولذلك فإن تناول البيض – فى هذه المناسبة - يبدو وكأنه إحدى الشعائر المقدسة عند قدماء المصريين، وقد كانوا ينقشون على البيض دعواتهم وأمنياتهم للعام الجديد، ويضعون البيض فى سلال من سعف النخيل يعلقونها فى شرفات المنازل أو فى أغصان الأشجار؛ لتحظى ببركات نور الإله عند شروقه فيحقق أمنياتهم.. وقد تطورت هذه النقوش - فيما بعد -؛ لتصبح لونًا من الزخرفة الجميلة والتلوين البديع للبيض.. فهل نجىء نحن الآن ـ والدنيا ربيع ـ لنهدرتلك القيم العظيمة التى أرسى قواعدها أجدادنا العظماء الذين علموا العالم معنى الحضارة والتقدم ؟! ولنا الحق ـ كل الحق ـ أن نحلم بعودة النيل بلا أسوارتحجب المتعة به، وحتى ذلك الحين ينبغى أن تعلن الأمة المصرية يوم شم النسيم يوما للبيئة للدفاع عما تبقى من الأخضر؛ بل والتفنن فى زيادة مساحته وتحريم بناء ناطحات السحاب على شاطئ النيل والاستمرار فيما بدأه شباب الثورة من تنظيف المدن والقرى وتجميلها وتنوير المصريين ليتوقفوا عن التعامل مع الشوارع والطرق السريعة والكبارى والأماكن الفضاء على أنها صندوق قمامة عملاق.. إن ذلك من علامات انعدام التحضر وعدم الانتماء وتلويث البيئة مع سبق الإصرار وفقدان الذوق الجمالى الذى هو جزء من فقدان عام للذوق.. معًا نحو مصر نظيفة وجميلة لتستعيد مصر وقاهرتها عرشها.. لقد كانت القاهرة فى الثلاثينيات والأربعينيات أنظف وأجمل مدينة فى العالم، فلم لانبدأ من اليوم ثورة تنظيف وتجميل وفرح تتجدد مع كل شم نسيم.. لتكون الدنيا ربيعًا بحق؟!

أستاذ الدراسات اللغوية ـ أكاديمية الفنون