رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنا أكُفِّر إذن أنا إخوان


فليسمح لى سيد قطب ـ رحمه الله ـ أن أقتبس فكرة صاغها فى عبارة شهيرة له قال فيها «نحن نشهد نموذجاً يزعم لنا أن الحروب الصليبية كانت ستاراً للاستعمار... كلا... إنما الاستعمار الذى جاء متأخراً هو الستار للروح الصليبية».

أما عبارتى المقتبسة فهى محض تساؤل عن ذلك الضجيج الذى ثار فى الآونة الأخيرة من أمة لا تحرك الرحى لتطحن قمحها إذ يا ترى «هل هو ضجيج من أجل النبى أم هو خلاف تستر وراء النبى ؟!!» .

أمة فارغة خارجة من السياق الحضارى، وحركة تسمى نفسها بالحركة الإسلامية حولت نفسها من حركة تضيف وتجدد، إلى حركة لا تعرف إلا التقليد والتنديد، تحمل أجندة أولويات تضع الشكليات فى مقدمتها، وفى قلب هذه الحركة يتصدر تنظيم الإخوان الذى أصبح وعن جدارة تنظيماً عسكرياً يضم بعض الإمعات ممن ليس لهم شأن، وبدلا من أن تساهم هذه الحر كة وتلك الجماعة فى نهضة الأمة حضارياً إذا بها بسبب سلوكها وضيق أفقها وخلل أولوياتها وخواء أفكارها تخصم من رصيد الأمة وتبدد .

ولا أخالنى مغالياً إذا قلت إن الأمراض التى أصابت الحركة المسماة « إسلامية» والجماعة المسماة «إخوان» بدأت حينما تغلغل فكر التكفير فى نسيجها فأحالها إلى حركة منغلقة على ذاتها تشعر بالاستعلاء على الآخرين وتعيش على وهم امتلاك الحقيقة بينما يقبض باقى المجتمع فى ظنها على الباطل، وفى علم الاجتماع تكون الحركات المنغلقة بعيدة كل البعد عن التأثير الإيجابى فى المجتمع، إذ كيف لحركة ترفع من قدر العزلة أن تضيف وتقدم ؟! وكيف للعسكرة أن تقدم فكراً إبداعياً ؟! .

بدأ طريق التكفير فى مصر فى العصر الأخير من نقطة انطلاق اسمها « سيد قطب» دخل إلى جماعة الإخوان فحولها إلى جماعة أخرى، وترك فيها أثراً امتد إلى باقى الحركة الإسلامية، حتى أصبحت جماعة الإخوان الحالية « جماعة سيد قطب لا جماعة حسن البنا» .

وللحق فإن سيد قطب كان مفكراً كبيراً وشاعراً رقيقاً وناقداً أدبيا حصيفاً وكاتباً أريباً إلا أنه لا يحمل ـ ولم يحمل ـ فكر الإخوان الوسطى المعتدل الذى كنتُ أعرفه وأحمله فى قلبى وعقلى بل وكل كيانى .

لا شك أيضاً أنه كتب فى الإسلام وعنه ووضع نظريته فى كتابه « معالم فى الطريق» ذلك الكتاب الذى أصبح دستوراً لكثير من الجماعات المتطرفة رغم أن البعض اتبع مع هذا الكتاب طريقة تأويل العبارات وليِّها وما ذلك إلا لكى يخرج هؤلاء بسيد قطب من دائرة التكفير إلى دائرة التبرير، إلا أن كتاباته عن الإسلام ـ رغم التبرير ـ مستوردة من «المودودى» الذى نشأ فى الهند فى مجتمع يعبد البقر ولا علاقة لها بأهل السنة والجماعة .

وقد أثار ظهور سيد قطب فى مدينة الإخوان بعد اغتيال حسن البنا بعامين قدراً من الارتياح فى نفوس بضعة نفر من أعضاء التنظيم الخاص، ذلك التنظيم الذى قتل النقراشى والمستشار الخازندار دون سند شرعى، هذا الجمع الذى اتكأ فى جرائمه إلى فتوى قيل إنها خرجت من الشيخ « سيد سابق» وعندما سأل القاضى الشيخ سيد سابق : هل أنت مفتى الدماء ؟ قال بخفة ظله مستنكراً أن يكون قد أفتى بقتل المسلمين المدنيين الآمنين : نعم أنا أفتى فى دم الحيض !! .

كان ظهور سيد قطب بأفكاره ونظرياته بمثابة الوسادة التى استراحت عليها رءوس إخوانية قلقة ومقلقة حائرة قتلت دون سند من شرع، فإذا بفيلسوفهم يطرح عليهم نظرية المجتمع الجاهلى فاستراح ضمير القاتل «ابن التنظيم الخاص» ذلك أنه قتل الكافر الجاهلى الذى كان يسعى لتقويض مجتمع المسلمين.

وما إن مرت سنوات المحنة الأولى على الإخوان التى بدأت من عام 1954 حتى بدأ تأثير سيد قطب يتزايد، فها هو يخرج من محبسه ويجتذب أنصاراً من طلبة الجامعة فضلاً عن عدد من الشباب صغير السن الذى لم يتشكل له قوام فكرى بعد، شباب لا علاقة لهم بحسن البنا ولم يعرفوه ولم يتأثروا بأفكاره، كان من هؤلاء الشباب - وقتها - محمود عزت ومحمد بديع وصبرى عرفة وجمعة أمين وسيد النزيلى (وتبعهم بعد ذلك فريق تتلمذ على يد أعضاء النظام الخاص «الحاج مصطفى مشهور وصحبه» مثل محمد مرسى ومحمود غزلان والكتاتنى ).

وحين تنادى الشباب وهم فى سجون النظام الناصرى بأفكار سيد قطب حاول المرشد حسن الهضيبى مقاومة حركة ذلك القطار القطبى التكفيرى فكتب كما يعرف الكافة كتابه الشهير «دعاة لا قضاة» وقد يكون هذا الكتاب قد أعطى قوة لفريق الدعاة الذين تتلمذوا على يد حسن البنا ولم يعرفوا سيد قطب بل نفروا من أفكاره ومجّوها، إلا أن جماعة الإخوان فى السبعينيات حملت على أكتافها هؤلاء وهؤلاء، فكان إخوان حسن البنا على رأس الجماعة وكانت فرقة سيد قطب من وراء ظهرها غير مرئية وكأنها تنتظر وثبة تقفز بها على رأس الجماعة، وحين كان إخوان البنا هم القادة والرأس والعقل كان القرضاوى والغزالى هم فقهاء الجماعة وكانت كتب القرضاوى هى المرجع الفكرى والفقهى لأفراد التنظيم وهى أكثر الكتب وجوداً فى المنهج الثقافى للإخوان .

كان الأستاذ عمر التلمسانى رحمه الله - وقتها - حائط صد يحول دون اختراق القطبيين عقل الإخوان لذلك اقترب هذا الشيخ بفراسته من جيل الشباب واجتذبهم وعلمهم فكان من تلاميذه عبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان وإبراهيم الزعفرانى ومختار نوح وأبو العلا ماضى والسيد عبد الستار المليجى وخالد داود وحامد الدفراوى وأسامة رسلان، هذا الجيل الذى قدم الإخوان للرأى العام فى ثوب جديد منبت الصلة عن ثوبه القديم الذى تمزق وتخضب بالدماء فى خضم الاغتيالات والخلافات مع الأنظمة .

وبعد أن مات التلمسانى رحمه الله ومات من بعده من مات من المرشدين آلت الأمور إلى أهل سيد قطب وخاصته، وأولوياتهم هى التنظيم ثم التنظيم ثم التنظيم، فهو عندهم وفقاً لمدرسة قطبهم غاية لا وسيلة، فإذا اشتد عود التنظيم وبنيانه ونجح الجمع القطبى المسلم فى لم شمله تحت إطار واحد آنذاك يسهل دك بنيان المجتمع الجاهلى وفرض الإسلام عليه لأنه مجتمع ـ فى ظنهم ـ أشد فى جاهليته من جاهلية القرون الأولى وما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب !! فهل تعود «الإخوان» لأهلها ذات يوم ؟ لا أظن