رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشياء غير مهمة

 سماح ممدوح حسن
سماح ممدوح حسن

ذات مرة، امتلكت دمية الدب هذه عيون كهرمانية صنعت من زجاج خاص، وكان لكل عين حدقة وقزحية. كان الدب نفسه رماديًا وصلبًا بفرو سلكى.. لقد أحببته. 

ومضى العُمر. اشتريت شقتى الخاصة فى سانت بطرسبورج. أتجول فى بيت والدىَّ، أجمع ملابسى وكتبى بينما أتسوّل من أمى بعض الحلى والأقمشة القديمة المخزنة فى حقائب سفر قديمة. لا حاجة لأحد بأى من هذه الأشياء، لا أمى ولا أنا بالتأكيد. لكنى أحب الأشياء غير المهمة، تلك التى زال عنها معناها العملى والمادى والمُسلّى. تبخرت منها أى فائدة، تُركت فقط أرواحها العارية وذواتها الحقيقية وكل ما أخفاه صخب وإثارة الأيام الخوالى. 

بينما أنقب فى الخزانة أسفل السُلّم، محاطة بالخيش المتسخ وأوتاد التزلج القديمة التى لم يقوَ أحد على التخلص منها، أتلمس طريقى فى الظلام فى المساحة الفاصلة بين الحائط وصندوق التخزين، وجدت الدب أو بالأحرى بقاياه: الهيكل الفرو الخشبى، وكف أمامى واحدة، وزر بلاستيكى لعين واحدة وتعلقت الأخرى بقطعة من الخيط الأسود. 

أمسكته، حملته بقوة، تشبثت بجزعه المُترب الخشن، أغمضت عينى لكبح تدفق دموع مفاجئة فوقه. فقط وقفت هناك فى العتمة الخانقة الضيقة، أستمع إلى نبضات قلبى المحمومة أو ربما كان قلب الدب، فمن يعرف؟

لكن كيف بدا ذلك؟ ربما هو شىء من هذا القبيل، لِنَقُل إن لديك أطفالًا كبروا حتى وصلوا إلى سن الأربعين، وأنت اعتدت هذه الحقيقة وتعايشت معها، ثم نقبت فى الخزانة وها هو ذا، أول أطفالك، كما كان عمره ثمانية عشر شهرًا، ليس بإمكانه التحدث بعد، حلو الرائحة كدقيق الشوفان وعصير التفاح، ووجهه منتفخ من البكاء، ضاع لكن وُجد، ينتظرك كل هذه العقود خلف صندوق التخزين فى الخزانة، عاجز عن مناداتك، وآخيرًا الآن جُمِعَ شملكم. 

أخذته إلى شقتى الجديدة. كل شىء هناك جديد بطريقة مهينة، غير مألوف وغريب. امتلأ المكان بأشياء مشتراة من متاجر التحف ومتاجر السلع المستعملة، وكلها أشياء كانت فى السابق تنتمى لناس آخرين ولم تعتد بعد مسكنها الجديد. 

بذلت قصارى جهدى للتخفيف من غرابة الخزائن الغريبة ذات الأدراج و«البوفيه» بحلى وأقمشة أمى. وضعت الدب على سريرى ولم أعرف ما يمكن أن أفعل به أيضًا. فى تلك الليلة نمت وأحطته بذراعى، رد العناق بوهن بكفه الوحيدة.

كانت ليلة صيفية بيضاء، كأنما وضع الشاش أمام ضوء الشفق المعتم، ليلة لا نُعاس فيها بل توق إليه.

تفوح رائحة الغبار من الدُّب، الغبار والعُمر الماضى، والوهن وعشرات وآلاف السنين. فتحت عينى فى عتمة منتصف الليل المرمرى، واستطعت رؤية الخيط الأسود المتدلى من تجويف عينه الصغيرة البائسة. مسدت رأسه الخشبى، كان مغطى بالندوب. لمست أذنيه. لا، لا أظن أن يستمر هذا. هناك قصة قصيرة لـ«وليام فوكنر» بعنوان «ورود إميلى» تحكى عن المرأة التى سممت حبيبها لمنعه من تركها ومن ثم حبست نفسها فى البيت ورفضت المغادرة لأربعين عامًا حتى مماتها. بعد جنازتها عثر على جثة متعفنة ترتدى قميص نوم باليًا، ممددة على جانبها فى السرير كما لو كانت تحتضن شخصًا ما، وبجانبها، على الوسادة ومن المسافة البادئة للرأس هناك خصلة واحدة طويلة من الشعر الرمادى. 

فى الصباح غادرت إلى موسكو. وعندما عدت بعد شهر كان الدب قد اختفى، لم يكن فوق السرير ولا أسفله، لم يكن فى أى خزانة ولا حتى فى الفراغ أسفل البيت، لم يكن فى أى مكان يمكن العثور عليه، أى مكان. 

تاتيانا تولستايا: كاتبة وصحفية وروائية ومذيعة تليفزيونية روسية، جدها من ناحية أبيها ليو تولستوى. حصلت فى عام ٢٠٢٠ على جائزة كاتب العام لغزارة إنتاجها وإسهامها الطويل فى الأدب الروسى.