رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صيام العبادة وصيام العادة

يأتي شهر رمضان مرة في كل عام، يأتي من زمنه القديم الذي شرع فيه، لتثير أجواؤه في كل مرة، أسئلة مكررة عن أحواله وأحكامه وأفضل الأعمال فيه وما إلى ذلك.. من النادر في الحقيقة أن يطرح المسلمون أسئلة جديدة بشأن شهرهم الكريم، مع أن المفروض أن يجدد المؤمنون علاقتهم بالله من خلال التفكير في مثلها؛ فممارسة العبادة بلا تفكير قد تعني أنها صارت عادة يؤديها الناس كيفما اتفق، وهذا خطأ غير محسوس للأسف، حذر منه أئمة كثيرون وعلماء كثيرون، لعل أبا حامد الغزالي من أشهر هؤلاء؛ إذ نادى الرجل في بعض كتبه أن يحرص المؤمن على عدم تحويل العبادة إلى عادة (العبادة هي "التصرفات المشروعة التي تجمع كمال المحبة والخوف والخضوع لله تعالى"، والعادة هي "كل ما اعتيد حتى صار يفعل من غير جهد").
لا يصح أن تكون العبادة عادة؛ لأن العادة قاتلة للروح، حالة تتكرر على نهج واحد بدون جهد، أي من غير جد وبذل غاية وسع، ولو نظرنا إلى العبادة الرمضانية لوجدناها آلت إلى معنى العادة بالفعل للأسف؛ فكثيرون ينامون في أوقات الصيام ويتكاسلون عن العمل، وكثيرون آخرون لا يتحلون بالصفات الواجبة في الصائم، من الوداعة وحسن الخلق، إنما يسرفون في العصبية وقبائح الأقوال والأفعال، لكن الجميع يشربون مياههم ويأكلون تمورهم مع أذان المغرب، ويدعون أدعية الصائمين العابدين!
من المعلوم أن الصيام فريضة صعبة (امتناع كامل عن الطعام والشراب من الفجر إلى المغرب، بالإضافة إلى جملة من الآداب الضرورية يجب أن يلتزمها الصائم كما وضحت آنفا)؛ ولذا أباح الله الفطر لمن يستشعر قساوة العبادة، بالرغم من قدرته على الصيام، والمهم أن يؤدي غرامة ذلك.. "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين".. والإطاقة هنا هي الاحتمال بمشقة كمثل ما تعني الاحتمال مطلقا في مواضع أخرى. بيد أن البالغين الذين يجدون مشقة في صيامهم يخجلون من الإفطار، على مشروعيته، فيكملون أيامهم صائمين، ولكن على غير حقيقة الصيام.

العبادة تحتاج إلى يقين القلب قبل شغل الجوارح، لا يدل على صيام إنسان جفاف شفتيه في حين أن لسانه طري بالبذاءة والفحش، يدل على الصيام هدوء وأدب، وشعور بالغ بقيمة النعم التي كم يهدرها الإنسان بلا حساب، ويدل عليه سلوك قويم يتجلى في بر الأقرباء والأصدقاء والجيران، وامتداد الخير، ما دامت القدرة موجودة ووافرة، إلى الشارع والمدينة والإقليم بكامله.

العادة، كما يمكن أن يكون اتضح، أن يمارس الفرد الجانب الشكلي من الأمر الإلهي، وأن يكون أنانيا متبلد الأحاسيس في أغلب أمره.. ألا ليتنا نصوم عبادة لا عادة؛ ففي مضمون العبادة ما ينفعنا وينفع الآخرين والوطن، وفي فحوى العادة جملة طويلة مهينة من خسارات فادحة!