رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«أبواب القرآن 12».. لماذا منح الله إبليس فرصة الحوار بعد تمرده؟

جريدة الدستور

 

- ربنا يريد أن يقول لنا إنه لا يوجد إيمان بشىء إلا عن قناعة ولا توجد مصادرة على الأفكار

- أراد الله من هذا الحوار أن يقول لك اترك الخصم يعرب عما بداخله

- الهدف من الحوار هو إظهار الصواب ولذلك يفرق العلماء بين الحوار والمناظرة والمكابرة والمجادلة

 

 

فى القرآن الكريم حالة حوارية ممتدة، حوار بين الله وإبليس والملائكة، وحوار بين سيدنا إبراهيم والنمرود، والحوار فى العام جعله الله للتفاهم وحل المشاكل المعقدة، ويتفق العقلاء على أن الحوار قيمة عظمى من قيم الإنسانية، وهو ما جعل تجليات الحوار فى القرآن موضوع النقاش بينى وبين الدكتور محمد سالم أبوعاصى، أستاذ التفسير بجامعة الأزهر. 

■ الباز: كيف ترى هذه الحالة الحوارية فى القرآن الكريم؟ 

- أبوعاصى: يشغل الحوار مساحة واسعة جدًا فى القرآن الكريم، لدرجة أن الله يحاور إبليس ويحاور الملائكة، والإنسان يحاور الإنسان، ويجعل الله منه نموذجًا للتفاهم بغض النظر عن الاتفاق فى المعتقد أو الاتفاق فى الفكر، يعنى قد نكون مختلفين فى المعتقد، لكن يمكن أن نتحاور. 

وقد تتعجب عندما تقرأ قوله تعالى وهو يطلب من النبى أن يخبر المشركين بـ«وإنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين»، ووجه العجب أن معتقد النبى حق، ومعتقد المشركين باطل، لكن الله يطلب منه أن يحاورهم، ويضع له قاعدة مهمة فلا يجب أن تدخل الحوار بحكم أو فكر مسبق. 

■ الباز: يعنى النبى هنا مطلوب منه أن يدخل الحوار بقناعة أنه قد يكون على حق وقد يكون على باطل. 

- أبوعاصى: هذا صحيح، ولذلك جاء كما يقول علماء اللغة بـ«أو» التى تفيد الإبهام «وإنا أو إياكم لعلى هدى» بمعنى أن أحد الطرفين على حق والآخر على باطل، لم يقل لهم من أول الأمر أنا على الهدى وأنتم فى ضلال مبين، ويجرنا هذا إلى الواقع الذى نعيشه. 

فعندما يتحاور اثنان، كل واحد منهما يدخل الحوار بفكرة أنه يملك الحقيقة، وأنه هو الذى على الحق، مثلًا هناك مناظرات استمعنا إليها بين علماء أو دعاة وبين ملحدين، فنجد من بداية الحوار أن الشيخ أو الداعية يستعلى بأنه على الحق والآخر على الباطل، ففيم الحوار إذن؟ 

وهنا يمكن أن يسألنى أحدهم: يعنى أدخل الحوار مثلًا وأن أعتقد أن الله ليس موجودًا؟ 

أقول له: فى الحوار نعم، تدخل الحوار على أرض واحدة، وإذا قادنا البرهان العلمى والعقلى إلى أن الله موجود، تكون أفحمت من تحاوره بأن أثبت أنه على باطل، وإذا وصل خصمك إلى برهان أن الله غير موجود يكون بذلك ألزمك الحجة، لأنه بغير ذلك يكون لا قيمة له. 

نأتى إلى آية ثانية وهى «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن»، وهنا أدب آخر، فالحكمة هى وضع الشىء فى موضعه، وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الحكمة معناها السُنة، وهذا فهم خاطئ بالطبع. 

■ الباز: لماذا تعتبره خطأ... هى قراءة من بين قراءات والهدف منها فيما أعتقد تعزيز السنة؟

- أبوعاصى: أقول إن الفهم خطأ، لأن الحكمة هى وضع الشىء فى موضعه كما قلت، وأقول إن تفسير الحكمة على أنها السنة خطأ، لأن القرآن يقول «لقد آتينا لقمان الحكمة»، وهنا ليس معناها السنة، والحكمة المقصود بها هنا الكلام اللين الذى يحول العدو إلى صديق، ليس بالغلظة ولا بالشدة.

فالمخالف لى أدعوه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا لم يقتنع تظل المودة موجودة والعلاقة الطيبة باقية، والقرآن عندما يقول «وجادلهم بالتى هى أحسن» وفى اللغة العربية أحسن على وزن أفعل التفضيل، يعنى إذا كانت هناك طريقتان للحوار، واحدة حسنة وواحدة أحسن، فلا بد أن نأخذ بالأحسن. 

وفى الأزهر ندرس أدب البحث والمناظرة، وفيه عرض للآداب التى ينبغى أن تكون فى الحوار، منها ألا ترفع صوتك أثناء الحوار، ولا تقاطع من تحاوره حتى ينتهى من يتم كلامه، ولا يجب أن تستهزئ به أو تعرض عنه، ولا تستصغر من أمامك، وكل هذه آداب وضعها العلماء فى أدب المناظرة، وأتمنى أن نطبق هذا فى الواقع، لكن عندما نرى الحوارات الآن نجد أنها تصل إلى المشاجرات ومد الأيدى والسب ورفع الأصوات دون طائل، وبالطبع ليس هذا هو الحوار الذى يريده القرآن. 

■ الباز: سأتوقف عند حوار الله مع إبليس، الله هو الحق وإبليس هو الباطل، ورغم ذلك منح الله مساحة كبيرة لإبليس ليتحدث ويبرر ما فعله، وهناك كما تعلم من يعبدون الشيطان، بل هناك من يرى أن هناك إلهين، إلهًا للخير وهو ربنا، وإلهًا للشر وهو إبليس، وأنهما يتصارعان، فى رأيك لماذا منح الله كل هذه المساحة للشيطان ليتحدث؟ 

- أبوعاصى: الهدف من الحوار هو إظهار الصواب، ولذلك يفرق العلماء بين الحوار والمناظرة والمكابرة والمجادلة. 

عندما نأتى مثلًا للمجادلة سنجد أن القرآن يستخدمها بمعنى الحوار «وجادلهم بالتى هى أحسن»، الجدال هنا الحوار، لكن ما هى المكابرة؟ المكابرة أنى أتحاور معك ولا أريد أن أصل إلى الصواب، أنا أريد الجدال فقط، وهذا منهى عنه، إنما المأمور به هو المناظرة، لأن الهدف منها هو الوصول إلى الحق، وبذلك فأى جدال لا نبغى من ورائه الحق لا جدوى له. 

وفى حوار ربنا مع إبليس كما قلت نحن نعلم أن الله هو الحق، وأن إبليس هو الباطل، لكن ربنا سبحانه وتعالى يريد أن يقول لنا إنه لا يوجد إيمان بشىء إلا عن قناعة، ولا توجد مصادرة على الأفكار أو الدليل، فلو لم يحاور ربنا إبليس ربما قال أحدهم: وما يدرينا فقد يكون لدى إبليس دليل لكن لم تتح له فرصة ليقدمها، لكن مُنح إبليس الفرصة لكى يعبر عن ذاته وما يستند إليه. 

وعندما تحدث إبليس وقال عن سبب عدم سجوده لآدم «أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين» ظهر أن قياسه فاسد، وأراد ربنا أن يبين لنا أن جريمة إبليس ليست لأنه لم يسجد لآدم ولكن لأنه عصى أمر الله. 

لم يأمر الله فى حقيقة الأمر إبليس بالسجود لآدم، ولكن أمره للسجود للسر الإلهى الذى وضعه فى آدم «فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين». 

وكان هناك تفسير غريب وعجيب للدكتور حسن حنفى، أستاذ الفلسفة الكبير، رحمه الله، فقد فسر كلمة «فقعُوا» أنها تعنى «فقع العين»، وهى ليست فى فعل فقع، ولكن معناها «انزلوا» ساجدين، فهو فسر الآية بمعنى فقع العين أو فقع الحجة أو شىء من هذا القبيل. 

■ الباز: يمكن أن يكون لتفسير حسن حنفى وجاهته، فهو يتحدث عن فقع العين بمعنى الاستجابة للأمر وأنت مغمض العينين. 

- أبوعاصى: قد يكون ذلك... لكن الكلمة لا تدل على هذا، وقد أراد الله من هذا الحوار أن يقول لك اترك الخصم يعرب عما بداخله فى المناظرة ويتم دليله، لكنك تجد الآن قبل أن يتم أحد المتحاورين جملته يقاطعه من يحاوره، فالله لم يقاطع إبليس وتركه يقول كل ما لديه، حتى لا تكون لديه حجة يحتج بها على الله يوم القيامة. 

■ الباز: وماذا عن الحوار بين الله والملائكة، الحوار مع إبليس كان مع من تمرد، ومع الملائكة كان مع من أطاع وخضع، هل كانت هناك حاجة لهذا الحوار من الأصل؟ 

- أبوعاصى: أجرى الله حوارًا مع الملائكة، ليقول لهم إن هناك من هو أعلم منكم، وهناك من علمته ويعرف أشياء لا تعلمونها، وأنا لى حكمة فى هذا، وفى هذا الحوار أراد الله أن يظهر ميزة خلق آدم، ولماذا خلق جنسًا آخر غير جنس الملائكة، حتى لا يظنوا أنهم الأعلم أو الأفضل. 

■ الباز: فى الحوار مع إبليس يعلمنا الله أن نتيح الفرصة للخصم حتى يستوفى حجته، لكن فى الحوار مع الملائكة هناك قيمة أخرى، فالله يملك عليهم سلطة الأمر، ولكنه مع ذلك يتحاور معهم حتى يقنعهم. 

- أبوعاصى: لقد أراد الله أمرين من الحوار مع الملائكة، الأول أنه أراد أن يقول لهم إنه يعلم ما لا يعلمون، والثانى أنهم ليسوا أعلم الخلق ولا أفضلهم. 

وفى هذه الآية إشكال عند المفسرين، فالملائكة قالت لربنا: «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إنى أعلم ما لا تعلمون» بمقياسهم أنهم من يسبحون لله ويقدسونه، وأن الخلق الآخر حتمًا سيفسد فى الأرض ويسفك الدماء، فلماذا تخلقه؟ 

والإشكال هنا: هل كان هناك خلق قبل آدم، وكيف عرفت الملائكة أن آدم سيفسد فى الأرض ويسفك الدماء، إلا إذا كان هناك فساد وسفك دماء قبل ذلك، بعض المفسرين كانت لديهم جرأة وقالوا إن الحوار كان فيه اعتراض على الله، لكن الجمهور أو الأكثرية قالوا ليس هناك اعتراض ولكنه مجرد استفهام. 

■ الباز: السؤال بالفعل من ظاهر اللفظ للاستفهام وليس للاستنكار. 

- أبوعاصى: تظل الإشكالية وهى: إذا كان السؤال على سبيل الاستفهام.. فمن أين علموا؟ 

■ الباز: نعلم أن هناك دراسات كثيرة تتحدث عن أن آدم لم يكن الإنسان الأول على الأرض، فهناك من يقول إن هناك خلقًا سبقوه إلى الأرض. 

- أبوعاصى: هذا ما أردت الإشارة إليه، فما دام السؤال استفهاميًا، فلا بد أن هناك خلقًا يفسد فى الأرض ويسفك الدماء، وأعتقد أن مثل هذه الآيات تحتاج إلى إعادة نظر وإعادة فكر، وإذا قال أحدهم كيف تعترض الملائكة على الله، فإننى أقول إن هذه منحة من الله للخلق، يمنحهم القدرة على الاستفهام والاعتراض حتى يصلوا إلى الفهم. 

■ الباز: هذه قيمة عظمى بالطبع، فحتى لو كنت أمتلك سلطة فرض الرأى، فلا بد من الإيضاح والإقناع. 

- أبوعاصى: هذا ما فعله القرآن بالفعل، فرغم أنه ليس من شأن الملائكة أن تعلم، ما دام الله يعلم، إلا أنه عرض الأسماء التى علمها لآدم كلها على الملائكة فلم يعرفوا، قالوا سبحانك، ننزهك، فأنت تعلم ما لا نعلم، لكن الحوار كان ضروريًا لإقناع الملائكة، لقد ألزمهم الله الحجة، سألهم فوقفوا عاجزين، ولذلك أقروا لله بما أراد. 

يريد الله من هذه القصة أمرين، يريد أن يعلم الملائكة أن هناك جنسًا آخر يعلم ما لا يعلمونه، ويريد أن يؤكد للملائكة أنه هو صاحب الكلمة، وليس عليهم إلا التسليم، ورغم أن الأمر كان يمكن أن ينتهى من البداية إلى هذه النتيجة، فإن الله أدخلهم الامتحان حتى تكون النتيجة مقنعة. 

■ الباز: إذا أردنا أن نأخذ خلاصة من كلامنا، فما هى فى رأيك مقاصد الحوار فى القرآن الكريم، ولماذا جرت هذه الحوارات؟ 

- أبوعاصى: الحوارات فى القرآن تدلنا على أن الإنسان لا بد أن يعبر عن نفسه، ويعبر عن نفسه لأن له قيمة، وإلا لم تكن له قيمة ما منحه الله، وتدلنا أيضًا على أنه من حق كل إنسان أن يعرض أدلته حتى لو كانت تتنافى مع الإسلام، وحتى لو كانت تافهة، ولا بد أن ينصت بعضنا إلى بعض، فإذا كان الله بكبريائه وجلاله أصغى واستمع إلى آدم، واستمع إلى إبليس، واستمع إلى الملائكة، واستمع إلى امرأة تجادل الرسول فى أمر زوجها «قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركما».. استمع الله إليها فى حكم صغير بشأن الظهار، عندما قال الرجل لزوجته أنت علىّ كظهر أمى، وهذا كان فى الجاهلية، ذهبت المرأة إلى النبى وقالت له: إن لى منه أولادًا إن ضممتهم إلى جاعوا وإن تركتهم إليه ضاعوا، قال: ما أراك إلا قد حرمت عليه، فتجادل معه فينتصر لها الله.

وقيمة الحوار هنا أن الله عز وجل ينزل تشريعًا يحل المشكلة، وهذا أيضًا من أغراض الحوار فى القرآن، أن ننهى المشاكل التى تعترض حياة الناس، فعندما نتباحث فى المشكلات أو نفكر فى حل القضايا التى نتنازع حولها يلهمنا الله الصواب. 

■ الباز: أعتقد أن ما نفعله فى حديثنا أمر مهم جدًا، لأننا نبحث معك عن هذه القيم القرآنية التى تم تغييبها إلى درجة كبيرة، وربما يكون هذا ما أحدث مشكلات كبيرة فى حياتنا، وأعتقد أن تغييب قيمة الحوار هو الذى جعلنا نعانى من إشكالية التكفير، فعندما غاب الحوار وعندما يطرح أحدهم رأيًا مختلفًا فى قضية بعينها، ودون حوار يصدر الحكم بالتكفير وإهدار الدم والتفريق بين الأزواج والزوجات وربما اغتيال المختلفين معنا ماديًا ومعنويًا، فاسمح لى أن نقرأ فى فصول قضية التكفير على ضوء بحثنا عن تفسير جديد للقرآن.