رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

موات كامل.. من ينفخ الروح في السينما الليبية؟

الليبيون محرومون من «السينما».. هروب جماعى نحو الدراما التليفزيونية

دار عرض الرشيد في
دار عرض الرشيد في طرابلس قبل هدمها

لم يكن أكثر المتشائمين في نهاية السبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، يتصور أن يؤول حال السينما الليبية إلى هذا التدهور، وخلو البلد الغني بالمواهب الفنية والمبدعين من دار عرض سينمائي واحدة، فقد شهدت تلك الحقبة إنتاج فيلمين عالميين، "الرسالة" 1976، و"أسد الصحراء" 1981، من بطولة الفنان الأمريكي أنتوني كوين، وإخراج المبدع السوري الراحل مصطفى العقاد، ما كان يبشر بريادة ليبية في هذا المجال لم يٌكتب لها النجاح.

بدأت السينما في ليبيا قوية في العام 1908 بإنشاء أول دار عرض سينمائي.. ازدرهت في مرحلة الاحتلال الإيطالي، وفي الحقبة الملكية، مرورا بثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969، وسعي دولة القذافي إلى الريادة في كل المجالات، وتدشينه المؤسسة العامة للخيالة عام 1973، حيث بدأت آنذاك بقوة، وتدهورت تدريجيا حتى خلت ليبيا من دور العرض، والأفلام السينمائية، واتجه المنتجون إلى الدراما التليفزيونية القادرة على تغطية تكاليف الإنتاج، وتحقيق الربح، فيما فقد الليبيون هذا المورد الثقافي المهم.

الفنان العالمي أنتوني كوين في مشهد من فيلم الرسالة

وفي العام 2021، أصدرت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، القرار رقم 312 بشأن نقل تبعية الهيئة العامة للخيالة والمسرح والفنون إلى وزارة الثقافة، على أن يكون مقر الهيئة الرئيسي مدينة بنغازي. فيما تغيب عن المشاهد الليبي، أي أعمال سينمائية تعبر عن هويته ومشكلاته الحياتية، مكتفيا بمتابعة الأعمال الأجنبية والعربية، في انتظار من ينفخ الروح في جسد السينما الليبية.

وبين مطرقة الديكتاتورية وسندان الجماعات المتطرفة التي طغت على المشهد الليبي أعقاب الإطاحة بنظام معمر القذافي، أخذ عدد دور العرض فى ليبيا في التناقص، بعدما كان يتراوح بين 34 و36 دار عرض، ومنذ 2003 بدأت عملية إغلاق هذه الدور، انتهاءً بالعام 2011 بإغلاق آخر دار عرض أبوابها، وهي سينما الرشيد بالعاصمة طرابلس.

الفنان الأمريكي أنتوني كوين مع المخرج السوري مصطفى العقاد خلال تصوير فيلم «أسد الصحراء»

بقيت دار الرشيد مرتعا للحشرات والقوارض والأشباح، حتى أبريل 2021، حين قررت السلطات إطلاق رصاصة الرحمة على هذا المبنى التاريخي، عبر إزالته، ليلحق بسابقيه من الدور التي هدمت أو تحولت إلى محلات تجارية.

انتعاشة مرحلية

تسيطر على الفنان الليبي مكرم اليسير حالة من التفاؤل فيما يتعلق بصناعة السينما، ويرى أنها تشهد انتعاشة مرحلية، فقد ولدت مجموعة من المهرجانات السينمائية رغم أن أغلبها للأفلام القصيرة، لكنها تعتبر عودة جيدة.

مكرم اليسير

وقال اليسير في حديثه، لـ«الدستور»: نلاحظ تقديم مجموعة من الشباب لأعمال لا يمكن أن نقول إلا أنها محاولات سينمائية؛ نتيجة غياب الاستمرارية، ودور العرض التي اختفي أغلبها من المشهد الليبي، مع وجود مطالب من الجهات الفنية بليبيا بعودة دور العرض وإطلاق مهرجانات سينمائية أسوة بالأشقاء العرب، فالسينما في ليبيا ورغم عراقتها التاريخية، انقطعت لغياب الدعم والمناخ المناسبين.

وأشار الفنان الليبي، إلى أن الإنتاج يظل العائق الأكبر لأي إبداع، فالمشاريع الفنية ذات الفكرة والمحتوى بحاجة لإنتاج ضخم، وذلك ما لا يتوافر الآن في الوسط الفني الليبي إلا في تجارب قليلة توافرت لها الإمكانات، فكانت ملتقى لفنانين ليبين وعرب، مثل مسلسل «السرايا» الذي حصد جائزة في مهرجان الإذاعة والتليفزيون الذي أقيم العام الماضي في المملكة العربية السعودية.

وحول هروب الإنتاج الفني من حقل السينما إلى الدراما التليفزيونية، أقر اليسير بحقيقة وجود تقاعس عن دعم الأعمال السينمائية من شركات الإنتاج، مرجعا لذلك لعدم توافر دور العرض أو الجدوى المادية من الاستثمار في صناعة السينما في ليبيا.  

وشدد اليسير، على أن المسرح والتليفزيون والسينما مكملة لبعضها، ولكل مجال رواده ومتابعوه، ولا يمكن الاستغناء عن أحدها، فمهما تميزت الدراما ستظل السينما حلما لكل فنان ومخرج، وذات طابع خاص يحرك الذائقة الفنية لأي مجتمع.

الهروب إلى التليفزيون

من ناحيته، قال المخرج الليبي مؤيد زابطية، إن صناعة السينما كانت حكرا على من يستطيع التصوير بكاميرات السينما التي تعتمد على بكرات سينمائية، وهي بحاجة للمعالجة والتحميض والطباعة، وتحتاج لفريق تقني متمكن جدا للحصول على كل هذا، والتكلفة في هذا الشكل تكون عالية جدًا.

مؤيد زابطية

وأضاف زابطية في حديثه، لـ«الدستور»، أن تلك الصعوبات باتت من الماضي؛ فاليوم يمكن تصوير فيلم كامل بالهاتف المحمول، وربما يشارك بمهرجان كان وبرلين وفينسيا وغيرهم، حيث أصبح من السهل تصوير أي محتوى وإدراجه تحت «السينما»، لكن المهرجانات العملاقة لا تزال تضع معايير السينما الحقيقية، شروطًا للمشاركة.

ومضى قائلًا: نحن بحاجة اليوم لمحتوى درامي يحمل قيمة فنية عالية، وطرح قضية تمس وجدان شعوب العالم، وليست قضية محلية تخصنا فقط، وبحاجة أيضًا لممثلين قادرين على النفاذ لقلوب المشاهدين، دون مبالغة في الأداء، لكن مع الأسف، لا تتوفر لدينا هذه الأمور.

وأشار زابطية، لوجود تجارب فردية ربما يشاد بها، لكنها لا يمكن أن تكون القاعدة العامة، ولهذا يتجه المنتجون وصناع الفن، إلى الدراما التليفزيونية؛ لأنها قادرة على تغطية مصاريف الإنتاج المكلف، من خلال الإعلانات التي تغيب عن السينما.

ولأن السينما بحاجة لدور عرض، ومن دونها يصبح من الصعب الحصول على تمويل أو مخصصات للإنتاج، تتدخل إما الدول بمؤسستها، أو صناديق الدعم الغربية، لكن على هذا النحو تغيب الاستقلالية عن صناع المحتوى، ولهذا تحتاج صناعة السينما في ليبيا توفير دور عرض قوية، وبيئة تسمح بالإنتاج الفني. حسب زابطية.

عوامل قتل السينما

وقال الكاتب والباحث الليبي خالد السحاتي، إن ليبيا القذافي وقيادتها السياسية، قدمت دعمًا مهمًا لفيلمي الرسالة وأسد الصحراء العالميين، ولكن التغير في التوجهات السياسية والأيديولوجية، وكثرة التغيرات الهيكلية للإدارة الليبية في تلك المرحلة، وعدم وجود قطاع خاص قوي ومنافس وفاعل، أو ربما عدم توافر البيئة المناسبة، عوامل انعكست على الواقع السينمائي.

خالد السحاتي

وأضاف السحاتي في حديثه، لـ«الدستور»، أن السينما صناعة تحتاج إمكانات وأدوات، وبيئة ملائمة، وسوقا جيدة، لكي تعمل وتنتج، وتستمر في العطاء، لكن إذا لم تكتمل تلك الحلقة، فهذه الصناعة ستواجه ظروفا صعبة، ومعطيات غير مشجعة.

وتابع بقوله: عندما أنشأت الدولة المؤسسة العامة للخيالة في سبعينيات القرن الماضي، أممت دور العرض، بعد أن كانت تتبع القطاع الخاص، ووضعت الدولة يدها على الإنتاج السينمائي، وبالتالي، أصبحت هذه الصناعة تخضع لهيمنة الدولة وتسير وفق فكرها ونسقها الأيديولوجي.

وأشار إلى أن السينما الليبية شهدت مجهودات فردية مهمة، وأعمالًا متميزة في العقود الماضية، وشكلت علامات فارقة، منها فيلم «الشظية»، للمخرج الراحل محمد الفرجاني، عام 1986، وغيره من الأعمال، لكن الإشكالية تكمن في أن عوامل نجاح هذه الصناعة على ما يبدو لم تكن متوافرة، ولا يزال الركود واضحًا في هذا المجال.

ويبدو أنه يوجد توجه نحو تأسيس قاعات عرض سينمائي، في عدد من المدن، ولكن اا يزال هناك الكثير لا بد من إنجازه لإنجاح هذه الصناعة في البلد، مثل دعم جهات الاختصاص في الدولة، والتعاون الاستراتيجي بين القطاعين، العام والخاص، لتقديم أعمال سينمائية مهمة ومتميزة تليق بالمشاهد الليبي، وخلق بيئة تساعد في ذلك، لأن غياب هذه الصناعة غير مفيد، بحسب السحاتي.

واختتم الكاتب الليبي بالقول: لا بد من خلق جسور تعاون بين السينما والمجتمع، وتعزيز العلاقة بينهما، فإلى جانب الترفيه والتسلية هناك دور تربوي وتثقيفي للسينما لا يمكن إنكاره، يرتكز على إرسال رسائل إيجابية للنشء، وتأكيد قيم الانتماء والتسامح وثقافة السلام والمحبة.

غياب القطاع الخاص

ويرى المخرج الليبي عبدالله الزروق، أنه لا توجد سينما ليبية الآن بالمعنى الصحيح سوى بعض المحاولات من بعض الشباب الذين يحاولون إحياء هذا الفن المندثر في البلاد، متابعا: لقد أصيبت السينما الليبية بقرار إلغائها عام 2003، وبما أنه لا يوجد قطاع خاص يمكنه أن يحل محل سينما القطاع العام والتى كانت مسيطرة دون غيرها على الإنتاج ودور العرض، فإننا بانتظار ما ستفعله الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون التي أنشئت مؤخرًا بعد الثورة.

عبدالله الزروق

وأضاف الزروق في حديثه، لـ«الدستور»: ما زلنا نحاول إقناع أصحاب الثروات أن يمدوا أيديهم لإنتاج بعض الأفلام، ونوضح لهم أن السينما يمكن أن تكون مربحة، خاصة أن لدينا الإمكانات التقنية، ولدينا أيضًا تاريخ للسينما الليبية التي بدأت منذ نهاية الستينيات، ووجود الطواقم الفنية المؤهلة، غير أن الوضع السينمائي فى ليبيا محزن للغاية.

وأشار إلى أنه في السنوات الفائتة، كان حال السينما جيدًا، وشاركت فى كثير من المهرجانات العربية والأوروبية أيضًا، مثل مهرجان القاهرة ومهرجان قرطاج ودمشق والمغرب وفالنسيا الإسباني وميلانو وطهران، وغيرها، وقد حصلت على جوائز، لكن سيطرة الدولة هي التي حالت دون تقدمها، وأيضا غياب حرية التعبير جعلها سينما حكومية لم تعط المجال لصانعيها في تقديم ما يرونه وما يؤمنون به.

وواصل قائلا: لدينا أرشيف سينمائي مهم، خاصة في الأفلام التسجيلية التي وصلت إلى أكثر من 400 فيلم، بالإضافة إلى الأفلام القصيرة والروائية، وأيضًا وثائق سينمائية منذ 1911، أثناء الاحتلال الإيطالي، تمثل الغالبية العظمى للأرشيف السينمائي الليبي.

ونوه بأن العرض السينمائي في ليبيا بدأ منذ عام 1908، في نهاية العهد العثماني، وأنشأ الاستعمار الإيطالي 60 دار عرض في جميع المدن الليبية منذ عام 1920، وحتى وقت قريب، كان في العاصمة طرابلس عشرون دار عرض، لكن للأسف جميع هذه الدور مغلقة بعد ثورة فبراير، وجرى استغلال بعضها في أغراض تجارية لا علاقة لها بالسينما.

غياب الدعم المادي 

ويرى المخرج الليبي ومدير المركز القومي للسينما مصطفى الكرماجي، أن الإنتاج السينمائي الليبي في وضع الركود، نتيجة عدة عوامل؛ لعل من بينها أن الفنون والآداب كانت في آخر سلم اهتمامات الدولة الليبية. رغم تاريخ السينما فيها والذي يعود لبدايات القرن الماضي.

مصطفى الكرماجي

وقال الكرماجي في حديثه، لـ«الدستور»، إن السينما شهدت فترة ازدهار في ليبيا، حين تحصلت في عام 1968 على معامل التحميض والطبع السينمائي، وآلات المونتاج والتصوير الرائدة، في ظل وجود صناع للسينما من التصوير إلى التحميض إلى المونتاج إلى العرض، كلهم ليبيون، وتجهيز استديو للصوت وإمكانية إنتاج أفلام سينمائية روائية عام 1970. لكن ذلك كان في الماضي.

وأوضح أن السينما اليوم أضحت موردًا ماليًا مهمًا لبعض الدول، مثل الولايات المتحدة والهند، وتحولت إلى صناعة تجارية مربحة، ولخلق سينما ليبية يجب وضع رؤية جديدة يشارك فيها الجميع دون استثناء، الحكومة والقطاعات المختصة، وصولًا إلى القطاع الخاص والفنانين أنفسهم.

وتابع بقوله: لا يمكن إلقاء اللائمة فقط على الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون، ونطلب منها إنتاج أعمال سينمائية، وهي أساسًا لا تُصرف لها أي ميزانيات منذ سنوات. فالدولة ملزمة أن تصرف بسخاء على الأعمال الفنية سواء سينمائية أو درامية، إن كانت تريد فنًا وثقافة بالفعل، وهي أيضًا مطالبة باسترجاع كل دور العرض التي تم الاستيلاء عليها وتحويلها إلى محلات تجارية. 

التحديات التي تواجه السينما الليبية تتشابك بين الدعم المادي، ومشكلة غياب صناع السيناريو، وغياب الأفكار الخلاقة التي تصلح لإنتاج فيلم روائي طويل، وشراء الأجهزة والمعدات التي تحقق العمل الناجح، فالإنتاج الجيد يعني جدوى اقتصادية، وفي كل الحالات لا يمكن القيام بنهضة سينمائية ما لم تمد الدولة لها يد العون. بحسب الكرماجي.

يتفق الكرماجي مع زابطية فيما يتعلق بهروب المنتجين إلى الدراما التليفزيونية، لكن ليس فقط لأسباب تغطية تكاليف الإنتاج، لكن أيضًا لعدم وجود إنتاج سينمائي بالأساس، حتى باتت الدراما بديلًا عن السينما، ورغم الظروف المحيطة أثبتت الدراما الليبية وجودها عربيًا، في ظل بحث المنتجين عن الأرباح، ونظرتهم للسينما على أنها تجارة غير مربحة.

ورغم إيفاد المؤسسة العامة للخيالة مجموعات كبيرة لدراسة السينما في الخارج، لم تقدم المؤسسة منذ ذلك الوقت إلى الآن إلا أفلام، «معركة تاقرفت، والشظية، ومعزوفة المطر»، فضلا عن فيلم «الحب في الأزقة الضيقة» والذي لم يعرض بالأساس. في حين يبقى مستقبل السينما الليبية مجهولًا، حسب مدير المركز القومي للسينما.