رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أبواب القرآن (2).. كل تفسير يتعارض مع مصالح الناس مرفوض

جريدة الدستور

- التصوف يعنى أن تتصرف ضمن الكتاب والسنة وأن تكون مقيدًا بالشريعة والأحكام والمنطق

- التفسير الصوفى مقبول بشرط أن يوافق اللغة والشرع ولا يعود على السياق القرآنى بالإبطال

-  يجب ألا تقول كيف يتقدم الغرب وهو ليس مؤمنًا؟ لقد تقدم لأنه أخذ بالأسباب.

كنت قد توقفت فى حديثى مع الدكتور محمد سالم أبوعاصى عند المبدأ الأول فى تفسيره الحديث للقرآن عند شمولية النظرة لآيات القرآن، وهنا نستكمل الحديث. 

■ الباز: أشرت إلى أن أول مبدأ من مبادئ هذه القراءة أو التفسير الجديد للقرآن هو النظر إلى القرآن بشمولية، فلا يجب أن نأخذ آية ونعزلها عن بقية الآيات أو عن السياق العام لمثيلاتها من آيات القرآن الكريم، ما المبدأ الثانى؟ 

- أبوعاصى: المبدأ الثانى أو الخطوة الثانية التدبر فى الكون وفى النفس، القرآن يقول «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»، نحن لدينا مشكلة خصوصًا فى رمضان، نحن نهتم بالتجويد وبإتقان التلاوة، وهذا مطلوب، وبالألفاظ، لكن نغفل تمامًا المضامين. 

■ الباز: أعتقد أن هناك فرقًا كبيرًا بين القراءة الصحيحة والقراءة المتدبرة.. أليس كذلك؟ 

- أبوعاصى: المطلوب قراءة صحيحة متدبرة، وليس قراءة صحيحة فقط، فأنت تجد الناس يقرأون المصحف، ويسأل بعضهم بعضًا: كم ختمة ختمت؟ والمفروض أن نسأل: لكن كم ختمة فهمت؟ كم ختمة تدبرت؟ كم ختمة تجسد القرآن فى نفسك كما تجسد فى النبى عليه الصلاة والسلام؟ 

إننا نبحث عن الشيخ الذى يتقن الألفاظ ويتقن التجويد، وهذا شىء طيب، لكن أين الشق الآخر فى النظر إلى المضمون؟ 

وهنا رواية وردت عن الإمام أحمد بن حنبل، الله أعلم بصحتها، وإن كان المنطق العقلى أقرب إلى الرفض، يقال إن الإمام أحمد رأى الله فى المنام ٩٩ مرة، فسأله: ما أقرب العبادات إليك؟ 

قال الله: قراءة كتابى. 

تقول الرواية فلما رآه فى المرة الـ١٠٠ سأله: ما أقرب العبادة إليك؟ 

قال: قراءة كتابى. 

فالإمام أحمد قال له: بفهم وبغير فهم؟ 

قال له الله: بفهم وبغير فهم. 

أنا عندما أنظر إلى هذا، أولًا القرآن أمرنى بالفهم، فكيف ينزل خطاب من الله إلى الإنسان ويقول له اقرأه ولو لم تفهم، ثم الأمر الثانى أن الأحكام لا تؤخذ من رؤى المنامات، فالحكم أنا آخذه من مصدر من الكتاب أو من السُنة، ولا آخذه من رؤى المنامات ولا الكشوف ولا الإلهامات. 

وهنا نضع أيدينا على نقطة خطيرة وهى: هل نفسر القرآن بأن الشيخ الولى الصالح الواصل إلى الله يأتيه الرسول فى المنام ويقول له تفسير الآية كذا فيقول لنا كذا، هل هذا الكلام يقبل؟ 

الجواب لا يقبل.

■ الباز: على أى أساس تبنى كلامك يا دكتور؟ 

- أبوعاصى: تأسيسًا على أن العصمة فى الكتاب والسنة ليست فى الرؤى والمنامات، يعنى الإمام أبوالحسن الشاذلى، رضى الله عنه، يقول ضمنت لنا العصمة فى الكتاب والسنة ولم تضمن فى الكشوف والإلهامات والرؤى، هذه أمور شخصية خاصة بك أنت، لكن هذا لا يسرى قانونًا عامًا، فكيف نقول: نقرأ القرآن بفهم وبغير فهم؟ والنص القرآنى يقول «أفلا يتدبرون القرآن»، ويقول «والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًا وعميانًا». 

■ الباز: هنا لا بد أن أتوقف معك، فأنت تقول إن الروئ والمنامات والإلهامات ليست مصدرًا لتفسير القرآن، ثم نجد لدينا من بين التفاسير تفاسير صوفية، وهى غارقة فى الروئ والمنامات والإلهامات، وهى تفسيرات معتبرة، كيف نوفق بين ما تقول وهذه التفسيرات؟ 

- أبوعاصى: هناك فرق بين ما يسمى بالتفسير الباطنى والتفسير الصوفى للقرآن. 

التفسير الباطنى مرفوض لأنه خروج عن منطق العقل ومنطق اللغة ومنطق الأسس العامة للدين. 

يعنى مثلًا لما تقرأ فى بعض التفاسير «مرج البحرين يلتقيان» «على وفاطمة» ده تفسير شيعى باطنى، لما تقرأ مثلًا «إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة» «البقرة عائشة» تفسير باطنى، وهو تفسير مرفوض. 

وعندما تقرأ «فاخلع نعليك» خطاب لسيدنا موسى «إنك بالوادى المقدس طوى»، فعندما يأتى مفسر مثل القشيرى وهو من كبار المتصوفة فيقول فاخلع نعليك حذاءك، ويحتمل فاخلع الدنيا من قلبك تفسير مقبول. 

فالتفسير الصوفى مقبول بشرط أن يوافق اللغة والشرع، ولا يعود على السياق القرآنى بالإبطال، إنما التفسير الباطنى يعود على السياق القرآنى بالإبطال.

التفاسير الصوفية لها شروط، فعندما نقرأ فيها فمثلًا نسأل: هل الشريعة تقر هذا التفسير أم لا تقره؟ فمثلًا الألوسى فى «روح المعانى» يذكر المعانى التفسيرية الظاهرة والنحو والصرف والبلاغة، ثم يأتى بعد ذلك بإسرائيليات وخرافات لا يمكن أن يتقبلها المنطق، ويذكرنى هذا بشىء فى معركة من المعارك كانت بين المسلمين والرومان اسمها معركة «ذات الصوارى»، حيث بدأ الناس يقرأون البخارى، فواحد مفكر قال لهم: السفن تدار بالبخار لا بالبخارى، فنحن عندما نقرأ القرآن هل نحن فعلًا نتدبر فيما نقرأ؟ هل نحن فعلًا نفكر فيما نقرأ؟

■ الباز: وأنت تتحدث عن الرؤى والمنامات والإلهامات قلت إن القرآن لا يفسر بها، لكن هل ينفى هذا ما يقوله بعض المفسرين من أن هناك ما يعرف بالعلم اللدنى؟ 

- أبوعاصى: الكلام عن العلم اللدنى صحيح، ولا مانع أن الله- عز وجل- يلهمك تفسيرًا لآية، هذا من حيث العقل جائز، لكن أنا أتحدث عمن يريد أن يلزمنى بتفسير آية لأنه عرف ذلك من المنام، قد يأتى أحد ويقول لبعض الناس إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، فسر له بعض الآيات فى المنام، أنا غير ملزم بأن أصدق هذا التفسير، لأن كلامك قد يكون صادقًا وقد يكون غير صادق. 

■ الباز: لكن هل تنطبق مسألة العلم اللدنى على شيخ طريقة مثلًا لا يكون دارسًا أو لديه خلفية أو دراية بالتفسير، ثم يقول إن الله يفتح عليه بالتفسير، هل العلم اللدنى يمكن أن يمنحه الله لشخص غير دارس أو غير متعلم؟ 

- أبوعاصى: الصوفية أنفسهم يقولون «لو اتخذ الله وليًا لعلمه».. لا يتخذ الله وليًا جاهلًا أبدًا.

لكن أين هو الولى؟ 

أنا أبحث الآن فلا أجد، فأين نجد نماذج مثل عبدالقادر الجيلانى أو الإمام القشيرى أو معروف الكرخى أو السهروردى أو أبوالحسن الشاذلى أو الجنيد؟ 

الجنيد كان يقول: علمنا هذا مقيد بالكتاب، وعبدالقادر الجيلانى وهو على فراش الموت قال لابنه: سر إلى الله بجناحين من الكتاب والسنة. 

ففى التفسير الصوفى للقرآن الكريم التزام بما جاء فى القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وما عدا ذلك يقبل أو يرد. 

فأبوالحسن الشاذلى مثلًا هذا إمام كبير وعظيم، كان رجلًا متصوفًا وكان فقيهًا، كان غنيًا يلبس ثيابًا فخمة، فجاءه واحد من المريدين وقال له: أهذا ثوب يعبد الله فيه؟ فرد عليه بقوله: ثوبى هذا ينادى باستغناء عن الناس، وثوبك هذا الممزق ينادى بافتقارك إلى الناس.

هذا فى حقيقته فقه، كلام رجل يفهم أن الدين ليس أن ترتدى ثوبًا ممزقًا وسخًا. 

وجاءت أبوالحسن الشاذلى حلوى، وكان جالسًا بين مريديه فوزعها عليهم، فرفض أحدهم أن يأخذها منه، سأله: لماذا؟ فرد عليه بأن هذه نعمة لا أستطيع أن أقوم بشكرها، فقال له الشاذلى: يا أحمق.. الماء الذى تشربه نعمة لا تستطيع أن تقوم بشكرها.. وهذا أيضًا فقه. 

فالتصوف يعنى أن تتصرف ضمن الكتاب والسنة، أن تكون مقيدًا بالشريعة والأحكام والمنطق، فأنت ترى فى المنامات ولديك علم لدنى، لكن بشرط ألا يخالف ذلك ظاهر القرآن، وإذا خالف القرآن فأنت حتمًا كاذب، لأن الله لا يمكن أن يوحى لك بشىء يخالف كتابه. 

لقد سمعت أحدهم يقول: كل شىء يعلمه الله يعلمه النبى، ومن يستمعون إليه يصرخون: الله أكبر، لكن هذا كذب، لأن علم الله غير علم البشر، علم الله أزلى محيط يعلم الكليات والجزئيات، والنبى يقول «لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء»، فالنبى لا يعلم كل شىء يعلمه الله، وأنت عندما تقول ذلك فأنت تسوى بين علم الله وعلم الخلق. 

■ الباز: أعتقد أن هذه قاعدة للبشرية عامة.. فلا أحد يعلم ما يعلمه الله. 

- أبوعاصى: بالطبع هذه قاعدة عامة.. فلا يمكن أن نساوى بين علم الله وعلم البشر، والمنطق القرآنى والمنطق النبوى والمنطق العقلى يقول لنا لا، هناك فارق بالطبع بين علم الله الأزلى وعلم المخلوق، وإذا كان الله علم النبى بأزيد من الخلق باعتبار النبوة، فلا يجب أن نساوى بين النبى والله فى العلم. 

■ الباز: إذًا هذه شمولية النظرة والتدبر فى تفسير القرآن، ماذا لدينا أيضًا من قواعد؟ 

- أبوعاصى: القاعدة الثالثة هى فهم السنن الكونية، الله سبحانه وتعالى يحدثنا عن سنن كونية مادية وأخرى اجتماعية، ونحن نقرأ القرآن لا بد أن نقف عند السنن الاجتماعية. 

فعندما يقول القرآن «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» هذه سُنة اجتماعية، فإذا كنت فى معركة من المعارك، وتدخلها دون أن تعد لها العدة وتأخذ بالأسباب تهزم، فعندما لم يأخذ المسلمون بالأسباب فى غزوة أحد هزموا وبيّن لهم ذلك النبى، وتأمل ما قاله رشيد رضا فى تفسير المنار، يقول: إن الله لا يحابى أحدًا فى سنن الخلق. 

ولذلك يجب ألا تقول كيف يتقدم الغرب وهو ليس مؤمنًا؟ لقد تقدم لأنه أخذ بالأسباب، فسنن الله الاجتماعية تقول: إذا أردت أن تتقدم أو تتحضر أو تنتصر فلا بد أن تأخذ بهذه السنن، ومن يبتعد عنها تنهار حضارته وتاريخه وينتهى، فالقضية ليست إيمانًا وكفرًا، الإيمان والكفر لا دخل لهما هنا. 

■ الباز: يعنى لو دخلت معركة لا تنتظر أن ينصرك الله لمجرد أنك مسلم، فلا بد أن تأخذ بالأسباب، وهذا ينصرف على كل الأعمال. 

أبوعاصى: هذا صحيح بالطبع.. والشاهد أن السنن الكونية فى القرآن يبحث عنها علماء الفلك وغيرهم، أما السنن الاجتماعية التى جاءت لنصلح حالنا فى المجتمع خلقيًا وسلوكيًا وحضاريًا، فلا بد أن نبحث عنها جميعًا، وذلك حتى نستبقى حضارتنا ونستبقى أنفسنا، لأننا لو أهملناها يمكن أن ننهار تمامًا. 

■ الباز: هذه قواعد ثلاث.. هل تسمح لنا أن نضع القاعدة الرابعة معًا فى طريقنا للبحث عن تفسير جديد للقرآن، وهى أن نضع أمامنا البحث عما يتفق مع مصلحة الناس؟ 

- أبوعاصى: أتفق معك تمامًا، وأزيد على ذلك بأن كل تفسير يعارض مصالح الناس تفسير مرفوض، هذه قاعدة، فتفسير القرآن لا بد أن يكون محوره الإنسان، القرآن كله من أوله إلى آخره وفى الـ١١٤ سورة إما خطاب إلى الإنسان وإما خطاب عن الإنسان وإما خطاب مع الإنسان، فهل يمكن أن نتصور أن الله يرسل خطابًا يشقى هذا الإنسان؟ أو يكون ضد مصلحته؟ أو يعوقه فى الحياة؟ 

■ الباز: هذا يذكرنى بقاعدة صاغها الشيخ المراغى تقول «أتونى بما يصلح الناس آتيكم عليه بدليل من القرآن». 

- أبوعاصى: هذا كلام صحيح تمامًا، والعلماء يقولون الشريعة عدل كلها رحمة كلها مصلحة كلها، وباب المصلحة هذا فى غاية الأهمية، ومشكلة التيار السلفى كله أنه لا يريد أن يعترف بالمشاكل المستحدثة، وهذا سبب الفجوة بين النص والواقع، هذا التيار غير قادر على مواكبة العصر، لا يلتفت إلى قيمة الاستحسان الذى هو مرتبة تأتى بعد القياس، والقياس قد يكون عملية تنظيرية تجريدية، أما الاستحسان فهو عملية واقعية. 

العلماء مثلًا يقولون إن أبا حنيفة كان يقيس، وأبوحنيفة هذا أعظم من تحدث فى الفقه، وعندما كان يقيس كان أصحابه ينازعونه، كان محمد بن الحسن يقول له: هذا قياس فاسد، لكنه عندما كان يقول بالاستحسان لم يكن يلحق به أحد. 

ومعنى الاستحسان أنك تخالف النص لدليل آخر ظهر لك. 

يعنى مثلًا فى رمضان عندما تشرب أو تأكل وأنت ناسى، لو طبقنا القاعدة أنه أى شىء يدخل الجوف يفطرك؟ فما الذى يجعلنا نقول إنه إذا حدث سهوًا لا تفطر؟ 

الحديث يقول: من أكل أو شرب ناسيًا فلا شىء عليه إنما أطعمه الله وسقاه، هنا ذهبنا للاستحسان، وهو استحسان بالعرف وبالضرورة وبالمصلحة. 

وخلاصة القول إن القرآن جاء من أجل مصلحة الناس. 

■ الباز: المصلحة هى الأساس. 

- أبوعاصى: بالطبع.. لأن القرآن نزل لإسعاد الناس.

■ الباز: لكن ألا يتعارض هذا مع ما يقوله القرآن «لا تسألوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم».. هل هناك أسرار يظل القرآن محتفظًا بها ولا تفتح مغاليقها أمام الناس؟ 

- أبوعاصى: لا يستطيع أى إنسان مهما أوتى من علم أن يقطع بأن هذا هو مراد الله، فما يقدمه مجرد اجتهاد، أنت تستخدم الأدوات التى تعلمتها لتفهم من خلالها القرآن، لكن هل تفسيرك صحيح أو خطأ؟ فهذا ظن، إذا اجتهدت وكان اجتهادك صحيحًا منحك الله أجرًا، وإذا أخطأت عفا الله عنك، وهنا لا بد أن أنبه إلى أنه حتى غير المسلم الذى يبحث فى القرآن ولا يصل إلى الحقيقة فهو معذور عند الله، وهو كلام قاله الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، وقاله الآمدى من قبل، فلو أنك غير مسلم وقرأت القرآن وقرأت السنة وبحثت ولم تقتنع، وكنت صادقًا فى بحثك فأنت معذور عند الله لأنك لم تستطع أن تصل إلى الحقيقة. 

فالمفسر أى مفسر لا يستطيع أن يقول إن هذا هو ما يريده الله قطعًا، لأنه كما قلنا علم الله لا يطلع عليه بشر، ما عند الله لا نستطيع أن نصل إليه، إنما هى كلها عملية اجتهادية، وكل ما نستطيع أن نقوله من خلال أدواتنا الاجتهادية إن ربنا أراد أن يقول كذا من خلال هذه الآية. 

■ الباز: اسمح لى يا دكتور أن ننتقل بعد ذلك إلى المبادئ الأساسية التى سنعتمد عليها فى طرقنا لأبواب جديدة فى كتاب الله، نبتغى من ورائها الوصول إلى ما يمكن أن يصلح للناس أحوالهم الآن، واسمح لى لأن يكون حديثنا عمن يفسر القرآن، ما مؤهلاته، وهل هناك شروط للمفسر؟ 

- أبوعاصى: أنا معك إن شاء الله.