رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحم الله شاعر الرصيف

"مرة واحد صاحبي كان فنان ومات.. كان في أي قهوة بلدي ينام يبات. ويوم ما مات يومها عزّل من سُكات.. من غير صوان ومقرئين وقهوة سادة ومعزيين. كان زميلي في المدرج، كان في جامعة الحياة، قبل ما يرتاح يا عيني مات معاه الدكتوراه.. دكتوراه في الصياغة والفنون والكلام من كل لون.. كان نحيف العود وشبهي ورغم فقره كان ظريف.. كان موصي يفحتوا له ويدفنوه تحت الرصيف.. جنب منه بصله ناشفه، ويّا لقمه من رغيف".
صاحبي الذي مات هو أيضًا صاحب تلك الكلمات التي كان يرثي بها نفسه ظنًا منه أن لا بواكي له. ولكن الباكين عليه وعارفي قدره بالملايين، وأنا مجرد واحد منهم. إنه الشاعر بخيت بيومي. حرصه أن يتواصل معي من آن لآخر كان أمرًا يسعدني جدًا، لأن تلك المكالمات الطويلة والتي كانت تمتد لساعة كاملة بل وتتجاوزها، كانت تؤنسه في وحدته. حيث عاش ومات دون أن يتزوج أو يسعى إلى تكوين أسرة. مكالمات أستاذ بخيت بيومي وزياراته لي في ماسبيرو كلما كان في القاهرة جعلتني أعتبره صديقي الشخصي، رغم أنه أحد الكبار الذين بقوا من قوة مصر الناعمة في مجال الشعر الغنائي. 
 إنه الشاعر الذي كتب ببساطة وسلاسة تعكسان عبقريته وارتباطه الشديد بقضايا أمته: أرض العرب بتئن وللسلام بتحن.. بتدق ع الأبواب وتنادي ع الأحباب..اللي اتحادهم غاب من كتر سوء الظن. أرض العرب بتقول.. خايفه ياكلني الغول.. محتاجه منا صمود.. لمواجهة النمرود اللي مالوهش وعود وع الحدود بيزن.
 رجل مخلص ظل وفيًا لذكرى أساتذته وكان يحفظ كلمات غيره من الشعراء مثل أغنياته تمامًا، وفي القلب منهم الشاعر الراحل مرسي جميل عزيز، والذي تحدث عنه بيومي أكثر مما تحدث عن منجزه الشخصي، فقد كان يذكر له تقديمه للوسط الفني ودعم موهبته، وكتب عنه قصيدة رثاء على وزن أغنية عزيز التي غناها العندليب "جواب" ضمّنها أسماء معظم أغنيات عزيز البارزة. وحين كان يذكر بيرم التونسي كان يرى أن القوافي كانت تتصارع على سن قلمه، وأنه كان جبرتي عصره، كما أنه كان مصلحا اجتماعيا. تحدث بيومي عن عبدالوهاب محمد كذلك وأغنيته لنجاة "حد قاللك" بمحبة شديدة جدًا ولم يخجل أن يقول لي على الهواء: "كنت أتمنى أن أكون أنا مؤلف تلك الأغنية".
كتب بيومي لكبار المطربين والمطربات، فقد كتب لوردة "آهي جت كده"، وللفنانة عُليا التونسية كتب أغنية "طبع الحب" وذكر أنهم اضطروا لإعادة الكوبليه الأخير خلال التسجيل أكثر من مرة بسبب بكاء عُليا خلالها لأنها كانت تمر بتجربة عاطفية مؤلمة. وبخفة دمه حكى لي أن منتج الأغنية جعله يقيم في إحدى شقق الزمالك لينتهي من كتابتها في هدوء، ولكنه أطال مدة كتابة الأغنية حتى وصلت لشهرين كاملين ليبقى مقيما في الحي الراقي لأطول فترة ممكنة، فهو ابن المناطق الشعبية.
كتب بخيت أغنيات لكل من: ليلى مراد وسعاد محمد وطروب وموفق بهجت، ولرشدي كتب "خدني معاك"، كما كتب للعزبي "إزاي الصحة؟"، وكتب للبلبة "يا بتاع الأزأزة". أما شكوكو فقد كتب له بيومي عددًا من الاسكتشات الفكاهية. وحكي لي بخيت بفخر كيف سقط شكوكو من فوق الكرسي المتهالك في غرفة بخيت بشارع السكاكيني، وحين عاد شكوكو بعد أسبوع لاستلام الأغنيات اللي كتبها له بيومي، أحضر معه أدوات أصلح بها الكرسي المتهالك. وكان بخيت شديد السعادة بأغنيات المجموعة التي كتبها بتوجيه من الإذاعي الكبير فهمي عمر "بالمشيئة ابدأ نهارك" وأغنية "إدي كل الناس محبة" التي كانت تذيعها الإذاعة بانتظام في الفترة الصباحية.
ورغم كثرة الألقاب التي أطلقت على بخيت إلا أنه كان يلقب نفسه بشاعر الرصيف، ويبرر هذا بأنه ارتبط بالرصيف عاطفيًا لأنه قضى عليه سنوات طويلة من حياته في السبعينيات والثمانينيات بين القاهرة والإسكندرية، وكان يرى أن الرصيف أأمن طريق للمشاة فقد حماه الرصيف من حوادث طريق الفن سواء الانحراف أو التطرف، وفي نهاية قصيدته التي كتبها في محبة الرصيف يقول بخيت بيومي: "واللي باقي صوت الراديو من بعيد، وثومة بتغني الآهات".
 تميز الشاعر الراحل بكتابة الفوازير فقد كتب فوازير نيللي للتليفزيون، ولكنه تألق في فوازير الإذاعة التي صاغها لمدة 17 عاما، وقد كان حريصا أن تكون فوازير ثقافية تقدم معلومة في إطار ترفيهي، وبحس إنساني ومهني كان يكتب الفوازير خلال السنوات الأخيرة للإذاعية الراحلة آمال فهمي بتقطيع قصير مراعاة لتقدمها في العمر، وقد كان يرى أن كتابة الفزورة والإعلان والموال هي الأصعب بالنسبة للشاعر، وأنها أصعب بكثير من كتابة الأغنية. 
كتب بيومي تيترات مسلسلات 65 مسلسلًا إذاعيًا وتليفزيونيًا من أشهرها: شرارة، كسبنا القضية. وأبرز أغنيات المسلسلات التي كتبها كانت أغنية "حلوة يا زوبة" التي غناها الفنان الراحل محمود ياسين. وبمرح شديد قال لي إنه كتب ثلاث أغنيات للسيارات رغم أنه لم يقد سيارة يوما، وذكر أنه يحرص على الجلوس في منتصف السيارة الميكروباص ويده على أكرة باب السيارة استعدادا للقفز في أي لحظة إذا حدث مكروه خلال رحلته من القاهرة للمنصورة التي قضى بها معظم سنوات عمره في المرحلة الأخيرة. 
 نعى بيومي نفسه بقوله: "قطر الزمن ماشي على كيفه واحنا اللي فيه راكبين.. ح نفضل كده بالشكل ده طول عمرنا مسافرين.. رحلة حياة مجهولة مانعرفش آخرها ح يكون فين. لكل واحد محطة أول ما يوصلها يودع الركاب، م القطر ينزل شايلينه خمسة، وماشيين وراه اتنين وقد جاءت محطة بخيت بيومي الأخيرة ليودعه الآلاف من محبيه وعارفي قدر كلماته التي خرجت من حناجر الشعب لتصل إلى آذانهم ووجدانهم وضمائرهم تعبيرًا عن صدقها في التعبير عنهم.. رحمك الله يا أستاذ بخيت أو بي بي كما كان يحب أن نناديه نحن المحبون المقربون".