رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السندريلا والقديس.. مذكرات مكتشف سعاد حسني

السندريلا
السندريلا

هذه هى مذكرات الفنان الشاعر عبدالرحمن الخميسى عن اكتشافه سعاد حسنى بالتفصيل، أين ومتى رآها للمرة الأولى، خطواتها الأولى، موهبتها، قدراتها.

هكذا يتكلم أخيرًا الفنان الذى اكتشفها، وشجعها، ومنحها بطولة فيلمها الأول «حسن ونعيمة» عام 1959.

يتكلم الخميسى- بعد أن تكلم الكثيرون- ليحكى قصة وتفاصيل اكتشافه السندريللا، وهنا سنتعرف على حكاية السندريللا والخميسى، حكاية اثنين من كبار الفنانين، سعاد التى تخير لها محبوها أرق الأسماء «سندريللا الشاشة»، والخميسى الذى أطلق عليه أصدقاؤه لقب «القديس» ذات مساء حين أفرغ كل ما فى جيوبه من مال وأعطاه لسائق حنطور فقير وهو يقول لمن كان معه من أصدقاء: انظروا إلى وجه العربجى! وانظروا لرقبة حصانه، إنهما لم يأكلا منذ زمن طويل!

فصاح صديق عمره الكاتب محمد عودة: أنت قديس والله. ومن ثم لازمه ذلك اللقب حتى نهاية حياته، وكنا حتى نحن أبناؤه نناديه بالقديس فى البيت أو خارج البيت.

من ناحية هى قصة اكتشاف سعاد حسنى، وأيضًا هى قصة اثنين من الفنانين الكبار جمعهما افتقاد الطمأنينة فى طفولة كل منهما، والموت فى منافى الغربة، وما بين القلق والرحيل، حياة امتدت عامرة بالإبداع، سعاد فى السينما، والخميسى فى الشعر والقصة والمسرح والإذاعة والصحافة، ولم يكن نجاح السندريللا من ذلك النوع من النجاح التجارى الذى يسطع يومًا ثم يغيب للأبد، فقد كانت فنانة حقيقية. 

لكن كيف ومتى اكتشف القديس السندريللا؟ 

ولمح فيها كل تلك الطاقات فى لحظة خلال لقاء تم بالمصادفة؟ جرى اللقاء أواخر 1958، وكان الخميسى قبل ذلك قد قَدّم فى سبتمبر من نفس العام تمثيلية «حسن ونعيمة» للإذاعة التى لاقت نجاحًا باهرًا. 

كان العمل من تأليف الخميسى واللحن الافتتاحى من تلحينه، وقام ببطولتها صلاح منصور وكريمة مختار وعمر الحريرى وحسن البارودى وآخرون، وكانت مصر كلها تتابعها فى الخامسة والربع مساء كل يوم.

بعد شهور من إذاعة التمثيلية كنا أنا ووالدى نمضى قرب قصر عابدين، وكان قد استأجر شقتين فى نهاية شارع الجمهورية، واحدة للسُكنى والثانية لعمله بعد أن أنشأ فرقة الخميسى المسرحية، كنا عائدين من مشوار حين استوقفنا شخص لا نعرفه، صافح والدى وعرفنا باسمه، وقال إنه كان ممن يستمعون إلى محاضراته عن التذوق الموسيقى فى «جماعة الجرامفون» بكلية الآداب، وهى الجماعة التى أنشأها الخميسى مع د. لويس عوض، تذكره والدى أو أنه تظاهر بأنه تذكره، ذلك كان عبدالمنعم حافظ، زوج الست جوهرة والدة سعاد حسنى، دعانا حافظ إلى تناول الغداء فى بيته بحى الفوالة القريب من عابدين، وفى اليوم التالى قال لى والدى: يا ابنى أنا لا أعرف هؤلاء الناس.. هل تأتى معى؟، وكنت أحب صحبته فوافقته بسرور.

اهتدينا إلى البيت الذى يسكنه حافظ، وكان بيتًا متواضعًا للغاية، دخلنا منه إلى شقة بسيطة الأثاث أقرب إلى أحوال الفقراء، جلسنا فى صالة ضيقة وعرّفنا عبدالمنعم حافظ بزوجته الست جوهرة، والدة سعاد.

بعد قليل ظهرت صوانى طعام بسيط، انتهينا منها، فظهرت سعاد، فتاة نحيفة، صغيرة، خجولة، فى فستان متواضع للغاية، دخلت وهى تحمل صينية شاى، ابتسمت لنا برقة ووضعت الصينية أمامنا ثم جلست على مقعد وحدها على يمين الكنبة التى جلسنا عليها، ولم تنطق بحرف، فقط كانت تتطلع إلينا بصمت، روحنا نرشف من الشاى ووالدى يواصل حكاياته، ينصت إليه عبدالمنعم حافظ وزوجته جوهرة، ثم التفت الخميسى إلى سعاد مرة، وعاد للحكى، ثم التفت إليها ثانية وحدّق بها وصاح كأنما هو نفسه مدهوشا مما رآه فيها: هذه البنت نجمة!.

ولم تقل سعاد شيئًا سوى أنها ابتسمت ابتسامة خفيفة لطيفة، أما أنا فقد رأيت فى عينيها منذ اللحظات الأولى ذلك القلق، الذى يأكل الروح ببطء، وذلك البحث عن الطمأنينة الضائعة. 

مولد نجمة اسمها سعاد حسنى

حين أفكر مسترجعًا قصة ظهور «سعاد حسنى» على شاشة السينما العربية، تتوافد متزاحمة جملة من التساؤلات إلى ذهنى: إذا لم يمنح أحدنا الآخر، فكيف يمكن أن يتعلم الصغير من الكبير أن يمشى؟ هل حقًا تلعب «المصادفة» دورًا مهمًا فى حياة الإنسان؟ إن المرء بالحتم لا يُخلق بإرادته هو، الصدفة التى تقع فى حياته، فيقتنصها وتتبدل حياته، أولًا يهم إليها، فتمر به دون أن تحدث فى حياته أثرًا ملحوظًا، لا يخلق الإنسان وحده وبإرادته هو، الصدفة التى تحدث، ذلك لأن مقوماتها ترد إليه من خارج نفسه، ومن خارج حياته الشخصية.

هل لا بد من ربط الموهبة بالتعليم وبالبيئة الثقافية؟ وهل هناك علاقة بين المواهب والعلم؟ وما تلك العلاقة؟ ما حجمها وأثرها؟ ولو أنه من السائد ضرورة انصهار الموهبة فى بوتقة الثقافة كى تصبح سبيكة من ذهب القدرة، هل كان من الأفضل لسعاد حسنى ذاتها، من الناحية الشخصية، لو ظلت فى دائرة الظل تعيش، أم كان الأحسن لها أن تخرج من الظل كما حدث، وأن تحيا كما هى اليوم تحت الأضواء نجمة ساطعة؟ هل ترانى أسأت إلى سعاد حين فتحت أمامها باب النجوم، أم ترى أنى أحسنت؟

هذه وغيرها من التساؤلات المتلاحقة المختلفة، تطرح نفسها على عقلى حين أفكر فى حكاية سعاد حسنى النجمة الأولى للسينما العربية اليوم، ومع ذلك، فالأرجح أن استعراض تلك الحكاية، قد يجيب على بعض تلك التساؤلات، إجابات غير مباشرة، من ثنايا القصة وتفاصيلها، على أنه قد يتساءل بعض القراء، لماذا يعنى أديب مثلى بأن يكتب قصة اكتشافه لسعاد حسنى النجمة السينمائية؟ وهل مثل هذا الموضوع يستحق من الخميسى أن يمنحه وقتًا وجهدًا؟ 

فى رأيى أن تقديمى لقصة سعاد حسنى يحمل دليلًا قاطعًا على أن الشعب غنى بمواهب أبنائه البسطاء العاديين، وأن تلك المواهب إذا وجدت الرعاية اللازمة سوف تبهر الناظرين، هذا إلى جانب إننى- بالقدر المتاح- سأحاول أن أعالج قصة سعاد، غير منعزلة عن الظروف الاجتماعية التى صاحبتها نشأة سعاد ونموها وتطورها، إن سعاد حسنى جزء حى من تلك الظروف، وقد وعت نجمتنا تلك الظروف إلى حد ما، وكابدتها حتى العمق، وعكستها فى الحياتين الخاصة والعامة على السواء، وذلك بما سلكت سعاد، وتصرفت أمام الأحداث وعندى أن أمثل هذا الموضوع بما يتضمنه من عرض ومناقشة بعض القضايا الثقافية والفنية، جدير بأن أفرغ له الوقت، وبأن أمنحه ما هو قمين به من الجهد.

ذات يوم، بعد أن فرغت من إلقاء محاضرتى، تقدم منى شاب، خمنت أنه ليس طالبًا بالكلية وجعل يستفسر منى عن بعض المراجع الفنية، فأجبته إلى طلبه، وأمليت عليه بعض أسماء تلك المراجع وقدم لى الشاب نفسه قائلًا: أنا أسمى عبدالمنعم حافظ وأعمل مدرسًا فى المدارس الابتدائية، ولكنى أحرص كل الحرص على أن أتابع محاضراتك فى أى مكان، إنى كذلك أطالع لك ما تنشره فى المجلات الأدبية الرسالة والثقافة، وأحتفظ بعديد من قصائدك، وقد نجحت فى أن أتسلل بين الطلبة، لأحضر معهم هنا، وأستمع إليك.

وتأثرت بكلمات عبدالمنعم حافظ، وشكرته من أعماق قلبى، ورحبت برغبته فى زيارتى بمكتبى بل وحددت له مواعيد تواجدى بالمكتب كل يوم ولم أكن أتوقع لحظتها، أن بيت هذا الشاب بعد قليل من الأعوام سوف يضم الصبية الصغيرة «سعاد حسنى» التى ستغدو النجمة الأولى للسينما العربية.

وتوثقت عرى الصداقة بينى وبين عبدالمنعم حافظ كان يحب الأدب والفن، وقد دعانى ذات يوم إلى تناول العشاء بمنزله فى حى إمبابة على ما أذكر، وهناك قدم لى أولاده وأسرته وكان عددها كبيرًا، قدم لى أولاده وزوجته، كانوا دون عبدالمنعم خمسة أشخاص، ثلاثة ذكور من أبنائه وزوجته وبنت صغيرة وقد تعجبت كيف أن شابًا فى مثل سنه، أنجب أربعة أبناء، فلم يكن يبدو عليه أن تجاوز الخامسة والعشرين وخف عجبى فيما بعد، حين عرفت عمره الحقيقى الذى يزيد خمسة أعوام عما قدرت له وظل يتردد علىّ فترة من الزمن، انقطع بعدها عنى، فظننت أنه انتقل للعمل فى إحدى المديريات، وهذا يحدث دائمًا للمدرسين الذين ينتقلون من مدرسة إلى أخرى عامًا بعد عام.

ومرت عدة أعوام لم أشاهد فيها عبدالمنعم، ولم أعرف أين هو ولم يبعث لى خلالها برسالة أو كلمة تنبئ عنه، وفى عام ١٩٥٧، ظهر عبدالمنعم فجأة، وقد تغير شكله قليلًا، تقدم به العمر زارنى فى جريدة «الجمهورية» على ما أذكر وحكى لىّ كيف أنه شغل تلك الأعوام بمشاكل زحمت حياته الخاصة، فقد اقترن بزوجة ثانية، ثم انفصل عنها، ثم عاش وحده فى حى «الشرابية» وهناك تعرف بامرأة مطلقة تعول ثلاث بنات صغيرات، وقد سألته عن زوجتيه الأولى أم الأولاد، والثانية، فأخبرنى أنه انفصل عنهما الاثنتين، وأن جارته فى حى الشرابية، سيدة طيبة وديعة، وأنه لما رأها وحيدة، شعر بالتعاطف معها، وكانت النتيجة هى الزواج، وأسهب فى وصف الظروف والملابسات التى أدت إلى ذلك الزواج، ثم دعانى إلى زيارته، ولبيّت الدعوة.

كان منزله الجديد يقع فى حى شبرا بالقاهرة، وقد تعرفت هناك بزوجته الجديدة السيدة جوهرة، كما رأيت بناتها من زوجها الأول، وكن: كوثر وكانت مخطوبة لمهندس فاضل يهوى الموسيقى، والثانية سعاد حسنى، والثالثة صباح التى كانت تصغر سعاد بثلاثة أعوام، وقد توفيت بعد ذلك، رحمها الله، فى حادثة تصادم سيارة بطريق القاهرة الإسكندرية، وكانت سعاد حين دخلت إلى البيت، واقفة لصق حوض مياه فى الممر، تغسل بعض ملابسها، وتدعكها دعكًا بيديها، وخصل شعرها تغطى جبينها، وأجزاء من وجهها، ولم أكن أدرى لحظتها، بأن جدائل شعرها المنسكبة تختزن وراءها تلك اللؤلؤة النادرة المثال التى أصبحت تخلب بالفن قلوب الملايين.

كانت السيدة جوهرة «أم سعاد» امرأة طيبة القلب، تستطيع أن تقرأ على صفحات وجهها كثيرًا مما يعتمل فى صدرها، وكانت مليئة بأمومة ربما هى أغزر من الأمومة العادية، وقد لمست ذلك فى تصرفاتها مع أولادها، وفى حديثها عن حياتها مع زوجها الأول، قالت لى: لقد طلبت الانفصال عن زوجى من أجل بناتى الثلاث، ذلك لأنى رأيت إمكانية رعايتى لهن تصبح أكبر، لو عشت معهن بعيدًا عن والدهن.

وتعجبت لذلك، ولو أنى لم أرد الخوض فى تفاصيل قد لا ترغب هى فى البوح بها، ولكنى امتلأت احترامًا لأمومتها وطيبة روحها، وعلمت من السيدة جوهرة، أن والد بناتها كان الأستاذ حسنى الخطاط، وقد كان يعتبر أشهر الخطاطين فى مصر، وأكثرهم فنًا، وأدقهم عملًا، كذلك عرفت منها أن ظروف حياتها مع الأستاذ حسنى كانت صعبة للغاية، فهو إلى جانب أنه مزواج، كان يؤمن بأن تعليم أولاده فى المدارس يفسد مواهبهم، ولذلك لم يرسل ولدًا له ولا بنتًا إلى مدرسة لتلقى العلم، ولم يكن الدافع إلى ذلك، هو عجزه عن دفع مصروفات المدارس، ولكنه كان إيمانه العميق بما أسلفت، وهو أن المدرسة تقتل الموهبة، وكان دليله على ذلك، أن بعض أبنائه نبغوا فى عزف الموسيقى، وبعضهم نبغ فى الخط، وأن ابنته «نجاة الصغيرة» المطربة المعروفة، شقت طريقها فى عالم الغناء بنجاح لأنها لم تذهب إلى تلقى العلم فى أية مدرسة وكانت نجاة الصغيرة وأخواتها وإخوتها الآخرون، هم أولاد الأستاذ حسنى من زوجته الأولى، وهم إخوة سعاد وأخوتها من الأب فقط، كذلك أخبرتنى أم سعاد، أن زوجها الأول الأستاذ حسنى، كان يسقى نجاة وهى طفلة سائل الخل، حتى لا تنمو، ولا يزداد وزنها، لكى تظل صغيرة الحجم والعود، حتى يقال لها على الدوام نجاة الصغيرة!

وقد شرحت لى السيدة جوهرة تفاصيل مؤلمة خاصة بطلاقها من الأستاذ حسنى، كما ذكرت لى أنها تعرفت بعبدالمنعم حافظ زوجها الجديد، حين كان جارًا لها فى حى الشرابية وقد سألها أن تعاونه فى تدبير بعض شئونه المنزلية، فرحبت بذلك، ورأت أنه وحيد، وبدأت بينهما علاقة التعاطف، فالمودة، ثم الزواج.

كانت السيدة جوهرة تعرف كل الظروف التى مرت فيها حياة عبدالمنعم حافظ قبل التقائه بها، كان تعرف أنه سبق له الزواج مرتين، وأن لديه أولادًا من زوجته الأولى وأولادًا من زوجته الثانية، ومع ذلك، فقد وضعت له جوهرة ثلاثة أولاد، ذكرين وبنتًا.

كان البيت يضم السيدة جوهرة والأستاذ عبدالمنعم وأولادهما الثلاثة، وأيضًا كوثر وسعاد، وصباح، بنات جوهرة من الأستاذ حسنى، أى ثمانية أشخاص، كانت تشع بينهم سعاد وهى صغيرة كاللؤلؤة.

ليس من عيب هنا أن أقرر بأن سعاد حسنى، عاشت حياتها الأولى فى ظروف صعبة.

لقد رأيتها أول مرة حين كانت فى الخامسة عشرة من عمرها، فتاة رقيقة الحال، تعيش مع سبعة هم أفراد الأسرة، فى بيت متواضع عبارة عن شقة مؤلفة من غرفتين وصالة، ولم يكن هناك من دخل الأسرة غير راتب زوج والدتها الأستاذ عبدالمنعم حافظ، غير أنه لم تنقض أشهر قليلة حتى انتقلت كوثر إلى بيت زوجها المهندس، وكان أيضًا يقع فى حى شبرا، ثم ما لبث عبدالمنعم أن نجح فى إلحاق زوجته بعمل متواضع كان يدر جنيهات محدودة كل شهر، ومع ذلك فقد كان ملحوظًا أن دخل الأسرة لا يفى باحتياجاتها الضرورية. وقد سألت السيدة جوهرة ذات يوم: أليست نجاة الصغيرة أخت سعاد وصباح كما علمت؟

قالت السيدة جوهرة: نعم.

قلت: وهل تعاون نجاة الصغيرة أختيها؟

قالت: إنهما ليستا غير أختين من الأب.. أنا لست أم نجاة الصغيرة، ونحن نعرف أنها تعيش فى رغد، لكنها تساعد أخواتها من أمها فقط.. أما سعاد وصباح فلا أحد يساعدهما.

ورحت أفكر بينى وبين نفسى كصديق للأسرة، فى وسيلة لرفع دخل هذه العائلة الطيبة، وخاصة حين أخبرنى عبدالمنعم أنه يقتطع نصف راتبه الشهرى، ويرسله لأولاده من زوجتيه الاثنتين السابقتين! ولعل راتبه فى ذلك الحين، لم يكن يزيد على ثلاثين جنيهًا شهريًا!

وذات مساء، اتجهت إلى زيارة الأسرة وأحضرت لنا سعاد بكرمها منذ صغرها، أقداح الشاى الساخن، كان الوقت شتاءً، ولون الليل يبدو من نوافذ الغرفة مشويًا بزرقة صافية، وأرسلت بصرى عبر الشباك إلى الخارج، كانت أضواء كابية تشع من نوافذ البيوت المجاورة، وفكرت كم من مشكلة تسكن كل بيت من تلك البيوت، ترى.. هل تتشابه مشاكل الناس؟ الأرجح أنها تختلف، ولكنها على كل حال مشاكل آه لو يستمع من هم خارج المنازل إلى زفير الآهات التى تتردد خلف الجدران! ونظرت إلى وجه سعاد كان طاهرًا بريئًا وعيناها تشعان ذكاءً متقدًا وطيبة غامرة، وعندئذ، لاحت لى الفكرة، فنقلت بصرى إلى عبدالمنعم قائلًا: لقد وجدتها.

قال: ماذا؟

قلت لسعاد: عندى اقتراح لك.

قالت: تفضل.

قلت: ما رأيك لو وجدنا لك عملًا؟

قالت: بكل سرور.. ولكن أى عمل؟

قلت: سأكلم أحد أصدقائى، وسوف نرتب كل شىء.

قالت: وما هو المطلوب منى؟

قلت: شىء واحد فقط.. أن تتعلمى الكتابة على الآلة الكاتبة.

ولم تنبس سعاد بكلمة وفوجئت بشفتيها ترتعدان، وبدمع مباغت ينهمر من مقلتيها، وقد خيل إلىّ أنها تنظر إلى فراغ، ثم نهضت مرة واحدة، وانطلقت إلى خارج الغرفة، ماذا جرى؟ لماذا بكت سعاد؟

لؤلؤة مصر

مرت برهة لم يتكلم فيها عبدالمنعم، ولم أتكلم فيها أنا، وأدرت رأسى من النافذة إلى حيث انطلقت سعاد، إلى باب الغرفة التى كنا نجلس فيها، فبدت لى صالة المنزل، كانت أنوارها منطفئة، وقد كثفت فيها الظلال السوداء، ولاحت لى أطول مما هى عليه، مثل دهليز معتم ليس له نهاية! أين اختفت سعاد بدموعها وآهاتها الحارة؟ وهنا، كسرت حاجز الصمت، وقلت لعبدالمنعم: هل بدرت منى كلمة أساءت إليها؟ هل نَدّ تصرف منى جرح شعورها؟

قال عبدالمنعم: لا لا.. على العكس أنت تريد لها الخير.

قلت: فلماذا بكت، وسكتت، وخرجت؟

قال: أنت لا تعرف أنها.. أنها.

وتردد عبدالمنعم فى أن يكمل الجملة، وقد أدركت ما وراء تردده ذاك فيما بعد، أدركت أنه خجل من توضيح الحقيقة، لأنه هو نفسه كان يعمل مدرسًا.

قلت: إنها.. ماذا؟ تكلم.

قال: إنها لا تعرف القراءة والكتابة.

قلت: وكيف هذا؟ كيف يمكن أن تتركوا الفتاة دون تعليم حتى تبلغ الخامسة عشرة من عمرها؟ أنت رجل تعمل بالتدريس، وتدرك أهمية تعليم الأولاد؟

قال: لم يكن هذا ذنبى.

وتذكرت ما كانت السيدة جوهرة قد أخبرتنى به، من أن والد سعاد كان يؤمن بأن تعليم الأولاد يفسد مواهبهم الفنية!

ورحت أفكر فى سعاد، لو أنها فتاة أخرى، ودار بينى وبينها الحوار السابق، ربما كانت لا تبكى كما بكت سعاد، ربما كان رد الفعل مختلفًا تمام الاختلاف رحت أفكر فى أن رد الفعل، إنما يعكس جزءًا من طبيعة الإنسان، لقد كان من الممكن لو فتاة غيرها، أن تقول وهى تضحك أو تسخر: وهل تحسب أننى أعرف القراءة والكتابة؟ لا ياسيدى.. كاذب من أخبرك بذلك، وعندئذ، كان الموقف سينتهى بضحكة أو تعليق موجز.

ولكن سعاد فتاة من نوع خاص، وقد صور لى تصرفها مدى حساسيتها، وعمق إدراكها بأن عدم إلمامها بالقراءة والكتابة عجز ونقص، كذلك فاضت مآقيها بدموع تلوم سوء الظروف التى فرضت عليها أن تظل ملقاة خارج أسوار التعليم، كائنًا غامضًا، يرى الأشياء من حوله غامضة أيضًا.

وناديت سعاد فلم تحضر، وذهب عبدالمنعم يدعوها، ولعله قال لها: ليس من اللباقة أن تتركى الضيف الصديق يناديك مرارًا ثم لا تأتين.

وبعد قليل، رأيتها تقبل من الداخل مع عبدالمنعم إلى الغرفة، وقد جففت دموعها، فدعوتها إلى الجلوس، وقد أردت أن أهون عليها من قسوة المشاعر التى تصورت أنها داهمت نفسها، فسببت لها ذلك الألم.

قلت لها: هل تعرفين يا سعاد أن أبى عاش حياته كلها دون أن يعرف القراءة والكتابة؟ وبعد أن مات أجد أنه علمنى الكثير من الدروس النافعة، إن والدى الذى مات أميًا، قام بتلقينى -أنا الابن المتعلم- عديدًا من دروس الحياة، كما زودنى بنظرات حكيمة إلى الأشياء، كيف يحدث هذا؟ هل تعرفين؟.

قالت وهى تهز رأسها هزة صغيرة: ممكن.

قلت: ممكن ولكن كيف؟

قالت: لا أعرف.

قالتها وقد بدت محيرة كأنما وقفت أمام لغز من الألغاز، لاحت كطائر جميل ابتل ريشه وجناحاه، فراحت تستجمع جسمها كله على الكرسى، وتحاول بنظراتها أن تنفذ إلى سر من الأسرار، كانت واستمرت هكذا طويلًا، مليئة بنوع مجهول من الشغف والتعلق بأن تكنه شيئًا ما، وأن تكتشف أبعاد الظواهر، ولعل سر سعاد وسحرها الإنسانى، هو محاولتها التوغل فيما يبدو لها أنه مجاهل، تصحبها مختلف أحاسيس التوجس والترقب خلال ذلك التوغل، وهى تنتفض قلبًا وجسمًا لوقع الظلال والأضواء! إنه لون من السعى الروحى الملفع بالسحر إلى المعرفة ترى هل كانت سعاد ستحمل كل تلك الجاذبية الروحية المتوجهة من اندهاشها أمام الأشياء، لو أنها تلقت التعليم فى الصغر؟ أرجو ألا يفهم أحد من كلماتى السابقة أنى أمجّد الأمية، أو أدعو إليها ولكنى أطرح ذلك السؤال متعلقًا بحالة خاصة للغاية، هى حالة سعاد حسنى ومع ذلك، فإن الإنسان حين يفض بالعلم طلاسم الأشياء، إنما يكتسب جاذبية من نوع آخر، لعلها هى جاذبية الاكتشاف وانتصار العقل على المعميات، ومن البديهى أن تلك الجاذبية الأخير، هى التى تواكب التقدم الحضارى جيلًا بعد جيل، وهى التى تفتح أمام الانتصارات الحضارية آفاقًا تلو آفاق، إنى على أية حال، لا أميل إلى تلك النبرة التقريرية فى الحديث، فموضوعنا هنا، أصعب على ذلك الاتجاه التقريرى، إنه موضوع يفلت من كل مألوف، لينحو نحوًا فنيًا وإنسانيًا أعمق من أى قرارات!.

عادت سعاد تستسفر: لم تقل لى كيف؟

قلت وقد انضمت والدتها الفاضلة إلى جسلتنا مع زوجها: فى رأيى أن مصادر الثقافة ليست فقط هى الكلمة المكتوبة، إن التجربة الذاتية فى الحياة هى مصدر للثقافة، فإن خبرة الإنسان بالدنيا وتقلبه فيها، واحتكاكه بغيره من الناس، تمده بثقافة ما، كذلك نحن نعيش فى عصر انتشر فيه الراديو والسينما والمسرح والموسيقى وعمت فيه الأغانى ولقد شكلت كل تلك الوسائط مصادر لثقافة الإنسان.

وكأنما أرادت سعاد أن توحى لى بأنها فهمت مقصدى، فقالت وقد شاعت بسمة على شفتيها، فبدت فى وجنتيها «غمازتان»: وهل يمكن أن ينفى هذا أهمية القراءة والكتابة؟

قلت: على العكس إن التدوين هو الذى حفظ حضارات البشرية والقراءة مصدر أساسى من مصادر الثقافة، ولذلك يجب أن تتعلمى القراءة والكتابة.

قالت: ألا ترى أنى كبرت؟

قلت: لقد بدأ الموسيقار «فاجنر» يتعلم فنون الموسيقى حين كان فى الثلاثين من عمره، واستطاع بعد ذلك أن يكون علامة فى تاريخ الأوبرا من الناحية الفنية، هذا بغض النظر عن مناقشة مضمون أعماله، لقد أضاف إلى الموسيقى الأوبرالية وحذف وألغى وعدّل تعديلًا وخلق اتجاهًا ومدرسة فنية خاصة به هو، ماذا كان يحدث، لو أن فاجنر حين بلغ الثلاثين وراودته فكرة العكوف على الموسيقى، قال لأحد أصدقائه: ولكن ألا ترى أنى كبرت؟

تنهدت سعاد قائلة: لعل ظروفه كانت مختلفة.

قال عبدالمنعم: الحقيقة أنه من الصعب إلحاق سعاد بأى مدرسة الآن هناك شروط موضوعة ومعروفة.

قلت: ولماذا نتجه إلى المدرسة؟ ليس من المطلوب أن تحصل سعاد على شهادة وفى تاريخنا الأدبى نفسه عمالقة مثل العقاد لم يحصلوا على شهادات دراسية، هل يمكن أن يكون التعليم والثقافة حكرًا على المدارس فقط.

وتدخلت سعاد، وقد اكتسب صوتها حماسًا مفاجئًا ملحوظًا، وأضافت، وهى توجه كلامها لى: وكيف إذن تتصور أنت إمكانية تعليمى، إذا كان التحاقى مستحيلًا بأية مدرسة؟

وقد سعدت بسؤالها، وبالحماس الملحوظ فى صوتها، بل لقد شهدت فى عينيها بريق أمل لم يكن فيهما من قبل، ورأيت من ذلك دلالة طيبة إيجابية.

قلت: يمكن أن تتعلمى هنا فى البيت.

قالت سعاد: لقد تعلمت فى البيت أن أعالج شئونه، علمتنى أمى أن أطهو، وأن أرتب الأشياء.

قلت: لماذا لا تتعلمين القراءة والكتابة فى البيت؟

وسألتنى: ومن الذى يمكن أن يكون معلمى؟

ونظرت إلى عبدالمنعم، وأضفت: إن عبدالمنعم نفسه معلم ألا يكفى هذا؟ كل ما هو مطلوب كتب الدراسة، وساعة من الوقت، يمنحها لك عبدالمنعم.

قالت السيدة جوهرة: ممكن يا عبدالمنعم؟

قال هو بعد تردد قليل: ممكن.. ولكنى لا أعتقد أنى سأنجح فى هذه المهمة.

ولاحظت أن السهوم شاع فى وجه سعاد بعد أن ألقى عبدالمنعم كلمته وخفضت رأسها فى انكسار.

قلت لعبدالمنعم: ولماذا لا تنجح يا عبدالمنعم؟

قال: إنى أعمل بالتدريس طوال النهار، وأعود إلى المنزل مرهقًا أنشد الراحة، فمن الصعب أن استأنف التدريس مرة أخرى فى البيت، ومع ذلك فمن المستطاع أن أتغلب على هذه العقبة، لكن هناك مسألة نفسية أخطر فى تقديرى من العقبة السالفة، تلك هى أن سعاد تعتبر فى موضع أبنتى، وتنظر لى كوالد لا كمعلم وإن نوعية هذه العلاقة ستغرى سعاد بأن تتواكل وتتكاسل، فلا تؤدى واجباتها الدراسية كما ينبغى، معتمدة على أن المعلم هو الأب.

واستمر عبدالمنعم يوضح وجهة نظره مردفًا: إن الإنسان إذا كان بحاجة إلى إجراء عملية جراحية فى أحد المستشفيات، لا يطلب والده أو أخاه لو كان كل منهما طبيبًا، هذا موقف يتكرر كل يوم فى ميدان الطب، والسبب فى ذلك الموقف هو ما أسلفت، غلبة العلاقة العائلية على العمل.

قالت السيدة جوهرة مدفوعة بعاطفة الأمومة: ولكن الأمر جد يا عبدالمنعم، وأنا فهمت من كلام الأستاذ الخميسى أنه يريد أن يسعى لإيجاد عمل لسعاد، ككتابة على الآلة الكاتبة، وهذا لا يمكن أن يحدث قبل أن تتعلم سعاد القراءة والكتابة، إن تعليم سعاد ليس شيئًا كماليًا بالنسبة لها، وبالنسبة لنا نحن أيضًا، إن أى راتب يمكن أن تتقاضاه عن عملها، سوف يعاوننا فى الإنفاق على ضرورات حياتنا.

كان عبدالمنعم يتكلم بصدق، وكانت زوجته أيضًا تتكلم بصدق هى الأخرى، أما سعاد فقد جلست مطرقة خلال ذلك الحوار لم تبد أى تعليق، وقد شعرت بأن الحيرة تلف قلبها، وبأنها تغرق فى انتظار تقرير مصيرها، ولاحظت أن هناك «حساسية» بين عبدالمنعم من جهة، وبين زوجته أم سعاد وسعاد من جهة أخرى، ومنشأ تلك «الحساسية» أن سعاد ليست ابنة عبدالمنعم وإنما هى ابنة رجل آخر، هذا فى الوقت الذى اعتقدت فيه أن عبدالمنعم يقول ما يراه بصدق، ولو أن كلماته وموقفه من تعليم سعاد، قد مس تلك «الحساسية»، حتى إنى شعرت برغبة زوجته أن تقول له: هل أنت تتخذ هذا الموقف لأنها ليست ابنتك؟ ونظرت فى عينى سعاد، فرأيت أن نفس المعنى يتردد عبر نظراتها، كانت مقلتاها الفاحمتان مليئتين بحزن مكثف، وارتمت خصلة من شعرها الأسود على جبينها، فبدا وجهها كأنه لوحة مرسومة بيد فنان مقتدر، وخيل إلى، للحظة أنى أعيش، لا فى الحياة الواقعية ولكن داخل رواية وأنى أحد شخوصها وأن ما أراه حولى وما أحسه، يدور كله داخل فيلم سينمائى أو مسرحية، لا أعرف لماذا تسرب إلى قلبى ذلك الإحساس؟ ربما لأن ظلال الليل والأشياء، واستقلال كل منا بشخصية تختلف عن الأخرى، عبدالمنعم وجوهرة وسعاد وأنا.

إن كلًا منا أمام المشكلة يحمل تصورًا خاصًا، قد يرتطم برأى الآخر أو يعترضه، ربما أيضًا لأن الفن تركيز للحياة، وها نحن نعيش فى برهة يشتد فيها تركيز التصرف، وأمام مسألة هى مفرق طريق بالنسبة لحاضر سعاد ومستقبلها، هل تتعلم سعاد القراءة والكتابة أم لا تتعلم؟

وطرحت عليهم السؤال السابق بصوت مرتفع، وأضفت إلى ذلك: هذا هو لب الموضوع وما دمنا قررنا أنه لا بد أن تتعلم، فلا ينبغى أن نتراجع عن تنفيذ القرار، وإذا كان عبدالمنعم لا يرى فائدة أكيدة من توليه هو هذا الأمر، فإننى ألتمس له العذر، وأرجو أن تسمحوا لى بأن أكون مسئولًا عن تعليم سعاد.

وتنفس الثلاثة الصعداء، عبدالمنعم وجوهرة وسعاد التى كانت أكثرهما سرورًا بذلك، وفكرت بينى وبين نفسى: هل يمكن أن أقوم بوظيفة المعلم؟ لقد مارست التعليم فى مطلع حياتى عدة أشهر هربت منه بعدها إلى غير عودة، ولا أحسبنى صالحًا لأداء هذه المهمة، كيف إذن نحقق ما أردنا؟ أو من يكون المعلم؟. 

بعد انقضاء يومين اثنين، عدت إلى منزل الأسرة، وقد كنت اتخذت قرارًا بالبحث عن معلم محترف يتولى تعليم سعاد.

سألت عن سعاد، فلم أجدها، قال لى عبدالمنعم أول الأمر: ليست موجودة.

قالها باقتضاب، كأنما أراد ألا نتناقش حول الموضوع، ولكن السيدة والدتها ما لبثت أن دخلت إلى الغرفة، وقالت: هل تدرى ما جرى؟

قلت: ماذا؟

قالت: بعد أن تركتنا تلك الليلة، دار حوار احتد فيه عبدالمنعم على سعاد التى راحت تبكى، تبكى طوال الليل.

قال عبدالمنعم: ومن منا كان المخطئ؟

قالت الزوجة: هى على أية حال بنت صغيرة، وأنت رجل كبير، المهم الآن هى النتيجة.

لقد خرجت سعاد صبيحة اليوم التالى ولم ترجع إلى البيت، سألنا أختها ربما فكرت سعاد فى أن تذهب إليها، لكن أختها قالت لنا إنها لم ترها، كانت السيدة جوهرة، تعنى أخت سعاد المتزوجة من المهندس، وكانت تسكن قريبًا منها فى حى شبرا.

ترى إلى أين اتجهت سعاد؟ وأين هى الآن؟.

بدايات

كان رد الفعل الطبيعى أن أنزعج لترك سعاد منزل والدتها والتغيب عنه دون أن يعلم أحد أين هى؟ ولكنى لا أعلم لماذا كنت مطمئنًا إلى أن سعاد بخير، وإلى أنها استنادًا إلى ذكائها لن تخطئ تصرفًا وقد ثبت أن حدسى فى محله، فقد أتى رسول من بيت «نجاة الصغيرة» المطربة المعروفة يقول بأن سعاد عند أختها منذ يومين، ولا داعى للقلق عليها وعندئذ طلبت من الرسول إبلاغ سعاد بأنى أنتظرها فى مساء الغد بمنزل والدتها، ولم يخب رجائى، جاءت سعاد فى الموعد وفضّلت أن نخرج من البيت، كانت تحمل رغبة جارفة فى أن تسير بمحاذاة شاطئ النيل، وقد انطلقنا إلى هناك وأخذنا نمشى فى شارع كورنيش النيل، لصق السور القصير، والنهر يمضى على يسارنا، كما كان يمضى منذ ألوف الأعوام، وقرب شجرة كبيرة تدلت ضفائرها وانغمست فى الماء الحنطى، جلسنا على أريكة من الأسمنت مصبوبة فوق إفريز الطريق، واتجهنا بأنظارنا إلى النهر، مديرين ظهورنا إلى الشارع ومن يتوافد فيه من المارة ذاهبين أو عائدين.

قالت سعاد: أشعر وأنا فى البيت بأنى سجينة داخل قمقم مغلق.. لا أعرف لماذا؟

قلت: الشارع أكبر من البيت، وليس له أبواب ولا جدران، والحياة أكبر من المدرسة ومن الجامعة، إن الذين يشتغلون فى المعامل يأخذون مواد تجاربهم من الحياة، ثم يعكفون على تلك الشرائح ليتفهموا الأسرار.

قالت: ماذا تعنى؟

قلت: أعنى ما قلت، أعنى أنه ربما صبغت ظروفك البيت بألوانها، فأصبحت تكرهين قتامها، ورحت تشعرين بأنك تعيشين فى قمقم! البيت لازم، والحياة خارجه لازمة أيضًا ولا يعوض أحدهما الآخر.

وأذكر أن سعاد فى تلك الليلة أخذت تطرح أسئلة متلاحقة ومختلفة:

هل يتحمل الإنسان وحده وزر جهله؟ لماذا لا يعيش الناس متحابين متعاونين؟ ما دام الإنسان لا يستطيع اختيار والديه، لماذا يتحمل نتائج أخطائهما؟ أليست هناك قوانين تحمى الإنسان من الظروف السيئة؟

ثم سكتت سعاد، وأرسلت بصرها إلى الفضاء، استغرقها بالكامل تفكير عميق.

ورحت أنظر فى وجهها، وأنا أقول لنفسى: لا يمكن أن تفكر هكذا فتاة غيرها فى نفس عمرها فى الخامسة عشرة.

ورحت أنظر فى وجهها وأنا أقول لنفسى: لا يمكن أن تفكر هكذا، فتاة غيرها فى نفس عمرها فى الخامسة عشرة، إن أسئلتها تلك لا تنبع من عقلها مجردًا، ولكنها كلمات مواجعها، يصوغها ذهنها الوهاج، حقًا لا يمكن أن يتولد الشرر، إلا إذا ضربت حجرًا بحجر، ومن هنا كان أول اكتشاف للنار! ولعل أسئلة سعاد تلك وما تلاها من نقاش متنوع ومحاورات بينى وبينها فيما بعد، كانت بداية اكتشافى لذكائها الوقاد وحساسيتها المرهفة.

سحبت سعاد بصرها من الفضاء، ونظرت نحوى وقالت: هل يمكن أن تتناول طعامًا أنت لا تحبه؟

قلت: لا بالطبع.

قالت: وإذا حاول أحد أن يرغمك على ذلك ماذا تصنع؟

قلت: لا أستجيب.

قالت: فلماذا هم يحاولون إرغامى؟

قلت: لا أفهم ما تقصدين.

قالت: لماذا لم تسألنى عن السبب الذى من أجله تركت المنزل، وذهبت إلى أختى نجاة الصغيرة؟

قلت: تركت لك الحرية فى ذلك لعلك لا تريدين الحديث عن السبب.

قالت: معك أنت يمكن أن أتحدث عن أى شىء.

وعلمت من سعاد ما جرى بعد مغادرتى لهم تلك الليلة، لقد عاد عبدالمنعم، فكرر اقتراحه بأن تتزوج سعاد من شاب يعمل فى مدينة بنها، كان الشاب قريبًا للأسرة، وقد رأى سعاد وشهدته عن كثب، ودار بينهما حوار عادى وعبّر الشاب عن أمله فى الاقتران بسعاد، ولكن الفتاة لم ترحب بتلك الرغبة بينها وبين والدتها، بل إن سعاد صارحت أمها بأنها لا تريد الزواج فهى ما زالت صغيرة، وذهبت سعاد إلى أبعد من ذلك، فقالت لأمها وللسيد عبدالمنعم: إنى لا أوافق على أن أصبح زوجة لقريبنا هذا، حتى لو كنت أفكر فى الزواج وأحلم به.

ولكنهما كانا يفاتحانها بين الحين والحين فى ذلك الموضوع، محاولين تجميل الزواج لها من ذلك الشاب المستقيم الخلق الذى يتقاضى راتبًا لا بأس به، وكانت سعاد فى كل مرة تعلن رفضها بحسم، وحين ناقشنا تلك الليلة ضرورة تعليم سعاد، ثم انصرفت من البيت على النحو الذى سبقت الإشارة إليه، قال عبدالمنعم لسعاد: أليس الأفضل لك أن تتزوجى من قريبنا، وتضمنين بذلك لنفسك راحة البال؟

ومرة جديدة، أعلنت رفضها بصوت حاد ومرتفع: لا.. أنا قلت لا مائة مرة قبل الآن!

قال عبدالمنعم: ولماذا تصرخين هكذا فى وجهى؟ وجعل كل منهما يتراشق بكلمات حادة وجارحة للآخر، وغادرت سعاد البيت فى الصباح المبكر.

وحين فرغت من سرد ما جرى، لذت بالصمت، ولم أعلق بكلمة، فقالت هى بعد لحظات: لماذا لا تتكلم؟ ترى هل أنا أخطأت؟

قلت: أنا لم أسمع الحوار الذى دار بينكما كاملًا، ولكننى أتصور أن عبدالمنعم يرى من وجهه نظره أن الزواج فى صالحك، إنى أتصور أنه يستهدف الخير، هذا فى حين أنك ترين الأمر عكس ذلك.

قالت: أليس من حقى أن أقبل وأن أرفض؟

قلت: هذا حقك بالطبع بل لا بد من احترام رأيك، خاصة فى هذه المسألة، إنها حياتك أنت أولًا وأخيرًا. قالت: إنى إذن لم أخطئ.

قلت: ولكنى أرى أن من الأفضل تجنب الحدة خلال أى مناقشة أو محاورة بين الإنسان والآخر.

قالت: هذا صحيح.. ولعلى فقدت السيطرة على أعصابى، فقط أنا لا أريد أن أتزوج ذلك الشاب.

قلت: لماذا؟ أريد أن أقف على وجهة نظرك.

قالت: هو شخص مهذب، ولعله جميل الطلعة أيضًا ولكنه لا يجتذبنى، إذا كان المغناطيس يجتذب أشياء معدنية، فلا بد للإنسان من مغناطيس آخر يجتذب به الطرف الثانى، وصاحبنا هذا لا يحمل أى مغناطيس.

واتفقنا بعد ذلك أن تعود سعاد إلى البيت، وقمنا من جلستنا نواصل السير على شاطئ النيل، وفى الطريق راحت سعاد تروى حكايات من طفولتها، مرة بفرح ومرة بحزن وتساءلت بينى وبين نفسى، هل هناك علاقة وثيقة بين السرور والحزن؟ توقفنا قليلًا عند جزء من سور النهر، فنظرت سعاد إلى مجراه، كانت أشعة القمر ترتمى على صفحة الماء، فيثرى تموجه بالبريق الهادئ، ويبدو كأنه مزيج من الذهب والفضة.

قالت سعاد: النهر كبير جدًا.. هل هو يمشى فى كل الدنيا؟

وابتسمت وأنا أقول لها: لا بالطبع.. فهناك أنهار أخرى فى البلاد الأخرى.

وسكتت سعاد ورحت أفكر فى سحر الكلمة، والدور الذى لعبته فى حضارات الإنسان، إن الكلمة هى السر الذى فتح أبواب المعرفة أمام العقل البشرى، كذلك جعلتنى أفكر كيف ستنطلق قدرات سعاد، بعد أن تتعلم وتحيط بالحقائق الأولية التى يحيط بها الإنسان العصرى.

حين انفردت بنفسى تلك الليلة، وجدتنى منساقًا إلى التفكير فى سر اهتمامى بسعاد: لماذا أوليها كل هذا الاهتمام؟ إنى لم أنظر إليها نظرة الرجل إلى فتاة رائعة الحُسن، لم أتعلق بها حبًا، بل إنى على استعداد لأن أقمع الحب، وأدفنه حيًا فى صدرى، لو أنه خفق حيالها فى قلبى، فلو كان ذلك الحب وقع، وأحسسته يغزو مشاعرى لظل موصومًا فى وجدانى بعار القدرة من ناحيتى، ومخضبًا بالضياع والعجز من ناحيتها -هكذا قلت لنفسى- ولقد صاحبنى ذلك الموقف النفسانى تجاه سعاد طول حياتى، حتى بعد أن أصبحت نجمة لامعة، ثم أولى ممثلات السينما العربية قاطبة فى تقديرى الفنى، نعم لقد ظللت أحبها ولا أحبها، أقترب منها وأنا مبتعد عنها، أقف إلى جوارها، ولا ألتصق بها، لقد نشأ تضامن إنسانى بينى وبينها، ومن عجب، أنه رفع من نفسه جدارًا يفصل أحدنا عن الآخر! ولم يكن غير هذا فى شعورى ممكنًا، فقد اعتزمت أن أمد إليها يدى لأحررها من الظروف الشاقة، فكيف أسمح لنفسى بتكبيلها فى أغلال علاقة غير عادلة؟ إن العلاقة السليمة هى تلك القائمة على الاختيار المتكافئ لا يخالطه تطلع إلى سد احتياجات الحياة الضرورية، أو إلى تجاوزها، الاختيار الصحيح هو الذى ينبثق من رغبة عاطفية خالية من كل شائبة، على أن يتم من موقع الند، وعلى أن يكون متبادلًا بين الطرفين، وما دام هذا هو موقفى النفسانى منذ الأيام الأولى للقائى بسعاد حسنى، فما سر اهتمامى بها؟ لعله هو حبى كفنان وشغفى الدائم والسعى المستمر من ناحيتى إلى إعادة صياغة الحياة على نحو أكمل وأجمل وأعدل؟ ألست أمارس هذا فى صياغة قصيدة، أو تأليف قصة، أو فى أى إبداع فنى مهما كان وسيطه؟ ألعله موقفى الاجتماعى الذى يؤمن بضرورة إتاحة الفرص للناس البسطاء العاديين، كى يغنموا حقوقهم فى التعليم والعمل، فتتفتح مواهبهم، ولكى يتضامنوا فيما بينهم بالقدرة والوعى لتحسين الحياة؟ الأرجح أنه الاعتباران السابقان متحد أحدهما بالآخر، فى العقل والوجدان جميعًا، بحيث تنعكس من وحدتهما نظرة واحدة، ويتدفق منها شعور واحد من قلبى.

نعم هكذا كان هذا فيما أحسب سر اهتمامى بسعاد حسنى، فهو سبب يرتبط جوهريًا بتكوينى إنسانيًا وفكريًا وعاطفيًا، كنت قبل عام ١٩٥٢، أمارس نشاطًا أدبيًا وثقافيًا ووطنيًا واسعًا ومتعددًا، كنت أنشر قصصى ومقالاتى بصورة منتظمة على صفحات جريدة «المصرى» اليومية، وكنت أواظب على إلقاء المحاضرات الأسبوعية تقريبًا بمختلف الأندية الأدبية، وأقوم بتأليف تمثيليات للإذاعة أتولى إخراجها بنفسى، وأنظم الشعر، وأبذل نشاطًا سياسيًا ضمن صفوف «الحزب الوطنى» وحزب «الوفد المصرى» وغيرهما من المؤسسات التقدمية فى ذلك الحين، وقد شاءت الظروف أن يتم اعتقالى عقب قيام ثورة ١٩٥٢ بعدة شهور، وأن يستمر إلقائى فى زنازين السجون السياسية قرابة ثلاثة أعوام مرت كيوم واحد متكرر، وتحمل لونًا واحدًا كذلك، وقد لاحظت أن «الإكراه» فى السجن يضعف الرغبة فى الابتكار، ذلك لأننى إذ أردت أن أطعم جبنًا «أكرهنى» نظام السجن على أن أطعم حساء أو فولًا مدمسًا، إن رغباتى داخل القضبان تتعطل ويفرض السجن رغبات نظامه الصارم، فكم من مرة، رغبت فى أن أتريض عند المساء، ولكن نظام السجن يعترض تلك الرغبة ويمنعها، ومن هنا يعيش السجين لا كما يود نسبيًا، ولكن كما يشاء السجن كلية! وذات مرة، زار مصر رئيس حكومة السودان المرحوم الأستاذ محمد أحمد محجوب، وكان صديقًا لى عزيزًا، ويحمل فى قلبه وفاء لأصدقائه نادر المثال.

والتقى الأستاذ محجوب الرئيس عبدالناصر، وطالبه بالإفراج عنى، بل لقد عرض عليه أن يسلمنى له شخصيًا، فأسافر معه وأحيا فى الخرطوم وصمم محجوب- تغمده الله برحمته- على عدم مغادرته الأراضى المصرية قبل أن يتم إطلاق سراحى، ووعده عبدالناصر بتحقيق مطلبه، ونفذ بالفعل وعده.

خرجت من السجن إلى الحرية، قبل وقوع العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦ بأشهر معدودة، وقد تغيرت مصر عن ذى قبل، وأصبحت دور الصحافة ملكًا للحكومة، بعد أن كانت ملكًا للأحزاب والأفراد والهيئات الأهلية والشركات، وحاولت أن أنخرط فى الحياة، والحق أننى بذلت مجهودًا عصبيًا ونفسيًا شاقًا فى محاولة استرجاع مواقع نشاطى السابق، حقًا كنت أخذت أنشر مقالاتى فى جريدة «الجمهورية» وبعض كتبى جعلت تنشرها دور النشر، ولكنى عطشى للنشاط الفنى كان يؤرقنى وطرأت فكرة على رأسى، خيل إلىّ أنها لو تحققت، فسوف تكون متنفسًا فنيًا، ماذا لو أنشأنا فرقة مسرحية تعيد تقديم التراث المسرحى العالمى وتتخصص فى ذلك ولا غير؟

وناقشت الفكرة مع بعض الشباب الذين درسوا المسرح، مع فاروق الدمرداش وأحمد زكى وغيرهما، فرحبوا بالمشاركة فى إنشاء مثل هذه الفرقة، وأذكر أننى قررت مع زملائى إجراء التدريبات على مسرحية «هاملت» لوليم شكسبير، واتخذت مقر «جماعة أنصار التمثيل» مكانًا للتدريبات على مسرحية «هاملت» واتخذت مقر جماعة «أنصار التمثيل»، مكانًا للتدريب، حدث ذلك قبل تعرفى بسعاد حسنى والتقائى بأسرتها، وقد علم عبدالمنعم حافظ، بموضوع تلك الفرقة وكان محور مناقشة ذات ليلة بينى وبين عبدالمنعم، وكانت سعاد والسيدة والدتها تستمعان لما يدور بيننا، وقد فوجئت بسعاد تتدخل فى الحديث قائلة: هل تعرف أننى حين كنت طفلة صغيرة، اشتركت فى برنامج «بابا شارو» بمحطة الإذاعة؟

قلت: صحيح؟

قالت: وما زلت أحفظ نشيدًا للأطفال كنت اشتركت مع الصغر فى غنائه.

قلت: مع الكورس؟

قالت: بالضبط.

قلت لها: لماذا لا تحضرين معنا إلى مقر التدريب وتشاهدين وتسمعين التدريبات التمثيلية؟

قالت: وهل هذا ممكن؟

قلت: ممكن طبعًا.

وفى الموعد التالى للتدريبات، كانت سعاد معنا بمقر جماعة أنصار التمثيل، تشاهد وتسمع الممثلين يؤدون أدوار المسرحية، وقد لاحظت أن رد الفعل على سعاد كان الانبهار القوى، وأحسست تلك الليلة بعد انتهاء التدريبات أنها هامت روحيًا خلف آفاق لا أعرفها، والواقع أنى بدعوتى إياها لحضور التدريبات، كنت أهدف إلى شغلها عن التفكير الحزين، ولم أكن قد رأيت فيها إمكانية الممثلة الفنانة، وكان يملأ ذهنى موضوع تعليمها القراءة والكتابة، وحدث أن تعرفت بمدرس فنان هو الأستاذ إبراهيم سعفان، كان يعمل معلمًا فى إحدى المدارس، وكان صديقًا أيضًا للأستاذ عبدالمنعم حافظ، ويقيم فى مسكن قريب من مسكن الأسرة، بحى شبرا، وخطر لى أن إبراهيم هو أقدر إنسان على تعليم سعاد، وأفضيت إلى عبدالمنعم بذلك الخاطر، فأعلن تأييده الفكرة، وفاتحت إبراهيم فى الموضوع، فوافق مشكورًا، وشرع يقوم بالتدريس، وأذكر أننى قبل تولى إبراهيم مهمته بيوم واحد، قلت لسعاد: من الفنان الذى بدأ يتبحر فى الموسيقى حين بلغ الثلاثين من عمره؟

قالت: ﭬاجنر.

قلت: وأنت كم عمرك؟

قالت: خمسة عشر.

قلت: أى أن عمرك الآن هو نصف عُمر ﭬاجنر حين بدأ.

قالت: فهمت قصدك أنا مستعدة.

قلت: من الغد.

قالت: بل من اليوم إذا أردت.

وملأت البسمة وجهها، وبدت فى وجنتيها «غمازتان» ساحرتان ولمعت مقلتاها برجاء سعيد.

بقية المذكرات تصدر فى كتاب قريبًا عن دار «أطياف»