رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصنع المواهب| السيد بدير.. كبير الرحمية صاحب فكرة تسجيل بيان ثورة يوليو بصوت السادات

السيد بدير
السيد بدير

لا تصدق أن السيد بدير عاش حياة واحدة، بل حيوات عديدة، ربما سرية لا نعرفها، فكما منحته السماء وفرة فى بنيانه الجسدى منحته أيضًا حيوات غير مرئية، لقد كتب للمسرح والسينما والإذاعة والدراما التليفزيونية، بالإضافة إلى البرامج الإذاعية، ومارس الإخراج والتمثيل فى عدد كبير من الأعمال الفنية فى السينما والمسرح والإذاعة، ناهيك عن مناصبه الإدارية العديدة، فمن يتأمل حياته والعدد الهائل من الإنجازات التى حققها لا يصدق أن هذا الرجل عاش حياة واحدة بل حيوات عديدة، أو على الأقل حياة خاصة لكل فن من هذه الفنون.

 ومن يتأمل حياته «١١ يناير ١٩١٥- ٣٠ أغسطس ١٩٨٦» يدرك أنه مصنع مواهب يعمل بكامل طاقته ولا يتوقف عن الكتابة والإخراج والتمثيل والإنتاج، رجل ذو قدرة عالية على الإنتاج، لم يتوقف أو يصبه أى عطل، بل ظل يعمل ليلًا ونهارًا وفقًا لنظام صارم. 

الممثل الشعبى 

الصورة الشهيرة فى وجدان المصريين للسيد بدير ليست ما ذكرته، بل هذا الفتى الريفى عبدالموجود بن كبير الرحمية قبلى، الذى أدى دوره الفنان محمد التابعى أو محمد أحمد أبوشرابة، هذا الفلاح الساذج القادم من الريف إلى المدينة، ابن العمدة صاحب السلطة، مشتبكًا مع أبناء المدينة طامعًا فى غرام الفتيات المنتميات إلى طبقة الأرستقراط أو جميلات الطبقة الوسطى، وهو أقرب إلى شخصيات الحكايات الشعبية التى تحمل قدرًا كبيرًا من الطيبة والسذاجة وتمارس أفعالًا أقرب إلى الفطرة، لذلك وجد هوى فى نفوس المصريين، والغريب أن الشخصية اشتهرت وذاع صيتها فى فيلم ابن ذوات ١٩٥٣، ثم فى فيلم بنت البلد ١٩٥٤، وكلاهما من سيناريو وإخراج حسن الصيفى، والقصة والحوار لزكى صالح واستيفان روستى، ولم يكتبها السيد بدير الذى كتب وابتكر مئات الشخصيات! واستمرت الشخصية فى أفلام أخرى مع التابعى وبدير فى فيلم «لسانك حصانك»، إخراج عباس كامل وسيناريو وحوار أبوالسعود الإبيارى. 

ورغم براعته فى الكتابة والإخراج فإنه واصل مسيرته كممثل، والتى بدأت تلفت الأنظار فى فيلم «السوق السوداء» لكامل التلمسانى عام ١٩٤٥ فى دور مصطفى الفران، وترك أثرًا لا ينساه الجمهور فى أفلام عديدة منها «سمارة، الأسطى حسن». 

السيد بدير بدأ هوايته الفنية مبكرًا حين كان طالبًا بمدرسة «رقى المعارف» بشبرا، والتى حصل منها على البكالوريا عام ١٩٣٢ ليلتحق بكلية الطب البيطرى، ليهرب من الطب إلى الفن لعشقه التمثيل، الذى صرفه عن الدراسة وعمل مدرسًا بالمدارس الابتدائية قبل أن ينتقل إلى وزارة العدل، كان بدير يتقن خمس لغات ساعدته فى أن يبدأ حياته مترجمًا للأعمال الأدبية العالمية لتقديمها للإذاعة، وأيضًا فى اقتباس مجموعة من الروايات العالمية وتمصيرها فى أعمال سينمائية مثل بائعة الخبز، وأيضًا مسرحية الفرنسى ساشا جيترى فى فيلم صاحب الجلالة على سبيل المثال، وحكى لى ابنه سامى بدير أن المكتبة الخاصة به كانت عامرة بالمؤلفات الأجنبية العالمية، وتم التبرع بها لدار الأوبرا بعد رحيله. 

ودون شك هذه المهارات فى الترجمة كان لها الأثر الأكبر فى ثقافته وتنوع مواهبه فى الكتابة والإخراج والتمثيل، ومنحته القدرة على التعامل مع روايات متباينة، سواء كانت مصرية أو أجنبية، لتحويلها إلى أعمال سينمائية وإذاعية ومسرحية، وأسهمت فى بناء مخيلته، ليقدم عشرات الأفلام السينمائية ما بين التأليف وكتابة السيناريو والحوار، والتى تنوعت ما بين الكوميدى والمأساوى والأفلام الاجتماعية، وتعاون أيضًا مع عدد كبير من المخرجين، فكل كاتب يتجه إلى نوع محدد من الكتابة السينمائية كأن يتخصص فى الكوميديا أو أفلام التراجيديا أو السينما الواقعية، لكن بنظرة سريعة إلى بعض أفلام السيد بدير يصاب القارئ بالحيرة، ويتساءل: كيف جمع بين كل هذه الاتجاهات، بين «بائعة الخبز، رصيف نمرة خمسة، جعلونى مجرمًا، ريا وسكينة، لك يوم يا ظالم، الأسطى حسن، الوحش، شاطئ الذكريات، اعترافات زوجة، شباب امرأة، إسماعيل يس فى البوليس، القلب له أحكام، سجن أبوزعبل، الفتوة، سواق نص الليل، سر طاقية الإخفاء، بين السماء والأرض، طريق الدموع، رسالة من امرأة مجهولة، عائلة زيزى، خطيب ماما، المليونيرة النشالة، السلخانة»؟، وهذه العناوين، التى هى على سبيل المثال، تجسد التنوع الهائل فى الأفكار والأساليب التى تمتع بها مصنع المواهب أو السيد بدير، وتؤكد قدرته الفذة على التعامل مع شتى الاتجاهات وأساليب الكتابة السينمائية التى جعلته يجمع بين كل هذه الأفلام.

والملاحظ فى هذه الأعمال تفرد السيد بدير بكتابة الحوار، فدائمًا ما كانت تُسند إليه كتابة الحوار، وأيضًا تعاونه فى عدد كبير من الأعمال مع نجيب محفوظ وصلاح أبوسيف، الأول فى كتابة السيناريو، والثانى مخرجًا وأيضًا مشاركًا فى السيناريو، فقد كتب الحوار لفيلم «الفتوة» عن قصة لمحمود صبحى الذى شارك نجيب محفوظ فى كتابة السيناريو، أما الحوار فكان للسيد بدير، وتكرر التعاون بين محفوظ وبدير مرة أخرى فى فيلم «ريا وسكينة»، وسوف يستمر فى أعمال أخرى مثل «جعلونى مجرمًا»، و«شباب امرأة» عن قصة أمين يوسف غراب. 

وفى اتجاه آخر يكتب حوار «القلب له أحكام»، قصة وإخراج حلمى حليم وسيناريو على الزرقانى، وكتب أيضًا القصة والسيناريو والحوار لفيلم «إسماعيل يس فى البوليس»، والحوار النموذج الذى يجسد أسلوبه هو فيلم «صاحب الجلالة»، الذى أخرجه فطين عبدالوهاب، الذى كتبه السيد بدير عن مسرحية الفرنسى «ساشا جيترى»، وهو نموذج لحبكة الفودفيل التى برع فيها بدير ممثلًا وكاتبًا ومخرجًا أيضًا، والمتتبع لأعماله لا بد أن يلاحظ تأثره الكبير بصيغة الفودفيل، هذا الأسلوب الذى يقوم فى بنائه على الحبكة البسيطة والسهلة والمواقف الملتبسة التى تثير الضحك، وتكون من عوامل التشويق والإثارة من خلال شخصيات تحمل مواصفات خاصة تحدث لهم أو يجدون أنفسهم فى مواقف غريبة تؤدى إلى نتائج مثيرة، حوادث أقرب إلى حكايات ألف ليلة وليلة، أقرب إلى منطق الليالى أو اللا منطق فى الأحداث ومبرراتها الدرامية! وهذا لم يقتصر فقط على الكتابة، بل انحيازه لهذا الأسلوب أيضًا فى الإخراج، وفيلم «سكر هانم» نموذجًا، وقد كتب السيناريو والحوار له أبوالسعود الإبيارى. 

3000 تمثيلية إذاعية 

بدأ السيد بدير حياته مؤلفًا ومترجمًا للإذاعة، وكان من أوائل العاملين بالإذاعة الحكومية، ولم يقتصر نشاطه الإذاعى على الإخراج والتمثيل، وكتب العديد من التمثيليات والبرامج الإذاعية، وحقق برنامجه «مايعجبنيش» شهرة واسعة ونجاحًا كبيرًا، وكان يقوم بكتابته واستمر عدة سنوات، وارتبط به الجمهور، حيث كان يتناول مشاكل المواطن اليومية من خلال بعض الآفات التى أصابت المجتمع مثل المخدرات والجشع، والطمع، والفهم الخاطئ للأمثال والسلوكيات الخاطئة، محذرًا الجمهور فى بداية البرنامج، من خلال المجموعة التى تغنى أقرب إلى الكورس المسرحى «مايعجبنيش، مايعجبناش ولا يعجب حد مايعجبناش ولا إحنا كمان»، أما البرنامج الثانى فكان برنامج «شخصيات تبحث عن مؤلف»، الذى يتناول من خلاله فى كل حلقة مهنة معينة مثل المكوجى، الطرشجى، الممرضة، المدرس، وهكذا، ليضعها فى صورة درامية محاولًا تقديم خفاياها للمستمع، وكان يقوم فى هذا البرنامج بدور المخرج، ويكتب نص الحلقات مجموعة من المؤلفين. وبالفعل كان السيد بدير يقدس العمل الجماعى، وهذا يبدو واضحًا فى أعماله المتنوعة فى السينما والإذاعة على مستوى الكتابة، وبلغت أعماله فى الإذاعة حتى بداية الستينيات نحو ٣٠٠٠ تمثيلية، وفقًا لقاموس المسرح. ومن حكاياته فى الإذاعة أنه أقنع البكباشى أنور السادات بتسجيل البيان الذى ألقاه بعد يوليو ١٩٥٢، فحين ألقى البيان الشهير قائلًا: بنو وطنى.. لم يتم تسجيله فى الإذاعة، ولذلك عاد بعد أسبوع بعد أن أقنعه بدير لتسجيل بيان الثورة للشعب.

بين مسرح التليفزيون والقطاع الخاص 

انضم السيد بدير لجمعية أنصار التمثيل والسينما عام ١٩٣٥ وكان عمره عشرين عامًا تقريبًا، وشارك فى عروضها إخراجًا وتمثيلًا، وأيضًا أخرج فى أربعينيات القرن الماضى مجموعة من أوبريتات المطربة ملك. ولكن اسمه ارتبط بمسرح التليفزيون، الذى ولد بعد البث التليفزيونى فى عهد الوزير عبدالقادر حاتم، فقد كان لهذا الفنان دور كبير فى رعاية هذا الوليد الجديد، الذى أثير حوله جدل كبير بين مؤيد ومعارض، ورغم هذا أنتج العشرات من العروض وقدم مجموعة كبيرة من شباب الفنانين للمسرح والسينما فيما بعد، وكان بدير عُين مديرًا لتمثيليات التليفزيون عام ١٩٦٠، ثم مستشارًا لفرق التليفزيون المسرحية عام ١٩٦١، حيث أشرف فى تلك المرحلة على إنشاء فرق التليفزيون العشرة، وفى عام ٦٦ تخلى عن منصبه بعد ضم فرق التليفزيون إلى مؤسسة فنون المسرح والموسيقى، لكنه واصل نشاطه المسرحى، وبعد عام صار مديرًا للهيئة العامة للمسرح والموسيقى، وأيضًا كان مسئولًا عن قطاع الفنون الشعبية حتى إحالته للمعاش عام ١٩٧٤، وعلى الرغم من مسئوليته ومساهمته فى مسرح التليفزيون ومسرح الدولة بشكل عام، إلا أن معظم أعماله قدمها للفرق التجارية، ومن أشهر أعماله للمسرح الحكومى «هاملت» لفرقة المسرح العالمى، ومسرحية «كورنيش إسكندرية» للفرقة الغنائية الاستعراضية، ومجموعة من المسرحيات لجمعية أنصار التمثيل والسينما، منها «المرأة بين جيلين، وأبطال المنصورة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه»، وكان قد بدأ التعاون مع الفرق الخاصة مبكرًا فى الخمسينيات «حبيبى كوكو» لفرقة إسماعيل يس، وأعمال أخرى منها «الست عاوزة كده، صاحب الجلالة، حرامى لأول مرة»، وواصل نشاطه فى المسرح التجارى حتى عام ١٩٨٥ قبل رحيله بعام، ليقدم مسرحية «عائلة سعيدة جدًا». 

والد الشهيدين 

عاش السيد بدير حياة مثيرة ليس فقط بين الاستديوهات والمسارح، بل فى حياته الشخصية، فقد أنجب من زوجته الثانية الفنانة شريفة فاضل ابنه «سيد» الطيار الذى استشهد فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، وكان لهذا الحادث أثر كبير فى حياته فيما بعد، وبسبب الشهيد كانت أغنية «أنا أم البطل»، التى غنتها والدته شريفة فاضل، وكتبتها الشاعرة نبيلة قنديل ولحنها الموسيقار على إسماعيل «ابنى حبيبى يا نور عينى.. بيضربوا بيك المثل/ كل الحبايب بتهنينى.. طبعًا ما أنا أم البطل/ يا مصر ولدى الحر. اتربى وشبع من خيرك/ اتقوى من عظمة شمسك.. اتعلم على إيد أحرارك/ اتسلح بإيمانه واسمك/ شد الرحال.. شق الرمال.. هز الجبال.. عدى المحال/ زرع العلم.. طرح الأمل.. وبقيت أنا.. أم البطل»، الأغنية التى ذاع صيتها وحفظها المصريون، وارتبطت دائمًا بذكرى نصر أكتوبر. وكان القدر رحيمًا بالسيد بدير ولم يشاهد مأساة الابن الثانى سعيد، حيث حكى لى ابنه سامى بدير عن الشهيد الثانى سعيد السيد بدير، الذى كان من العلماء فى مجال حرب الكواكب، وقام بالتدريس فى ألمانيا فى جامعة دوسلدورف، بالإضافة إلى تفرغه لأبحاثه فى تلك الفترة، وتلقى عرضًا من وكالة ناسا للعمل فيها، ولكنه رفض لسببين، الأول أنه كان مصممًا على أن يعود بعلمه إلى مصر، والثانى شروط العمل فى ناسا، التى تتطلب أن يكون ملكًا لهم يعيش فى مكان لا يراه أحد.. وبعد هذا الرفض يحكى سامى بدير عن المضايقات التى تعرض لها سعيد، حيث قذفوا كرة من النار فى شرفته، أو حاولوا الاعتداء عليه فى الشارع كأن تحاول سيارة أن تصدمه.. ولم يجد إلا هذه الحيلة، فأثناء توجهه إلى الجامعة وفى نفس الموعد ذهب إلى المطار وحصل على بطاقة سفر إلى القاهرة، وحاولوا إنزاله من الطائرة ولكن الطيار المصرى رفض ووصل سعيد بدير إلى القاهرة.. وطلب مقابلة الرئيس السابق حسنى مبارك، الذى كان يعرف العائلة جيدًا، فقد درّس للشهيد السيد سيد بدير فى القوات الجوية، وتم تحديد موعد يوم خميس وكان سعيد فى الإسكندرية فى شقة أحد إخوته سامح بدير، وقبل الموعد بيومين فارق الحياة يوم الثلاثاء فى عملية اغتيال محكمة، وحكى سامى أنهم التقوا بعد رحيله صحفية أجنبية فى مصر وأكدت لهم فعل الاغتيال، وكانت وفاته عام ١٩٨٩ بعد رحيل والده بثلاثة أعوام.