رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقاول أنفار عصري


قدم الفنان الراحل حسن مصطفى دور “فتحي الفكاهي” مقاول الأنفار في المزرعة التي تعمل بها “نعمة” فاتن حمامة في”أفواه وأرانب" سبعينيات القرن الماضي، كما نذكر البارع الفنان «زكي رستم» الذي قدم دور مماثل في فيلم "الحرام". 
لم يكن دورمقاول الأنفار قي تلك الحقبة التاريخية البحث عن عمال بثمن زهيد، إنما كان دور عظيم  في رصد الفئة الأكثر احتياجا للعمل والتصدي لظاهرة الفقر، كان مقاول الأنفار علي دراية بكل محتاج وباحث عن لقمة عيش شريفة، رغم تعنت "مقاول الأنفار" والمعاملة القاسية لفئة العمال واستغلالهم، كما تناولتها السينما المصرية إلا أن هذه المهنة كان لها أثر كبير في سد فجوة العمل وحماية المجتمع من "الفاقة" إلي حد ما، ويمكن القول  أن عمل مقاول الأنفار يندرج تحت عنوان "التكافل الإجتماعي"..هذا المقاول يمتلك قاعدة بيانات بكل سكان القرية أو النجع وتصنيفهم وفقا لخبراتهم العملية، من يصلح لعمل الزراعة ومن يمكن أن يسند إليه عمل إداري. وهذا يأخذنا إلي مفهوم التكافل الإجتماعي وأثره علي المجتمع.
يعرف "التكافل" لغويا من الكفل والكفالة، أي نقول:تكفلت بالشيء أي ضمنته، واصطلاحًا هو صورة من صور العدالة الاجتماعية، ويعني التعاون والتشارك والتراحم لتحقيق المصالح العامة في المجتمع. فإن التكافل الإجتماعي من إتمام مكارم الأخلاق، ليس فرضا علي أحد إنما أوصت به كل الشرائع السماوية.. تبنته الحكومات والمنظمات الأهلية  في العصور الحديثة لشعور الجميع بأن الأمن والسلم لايمكن أن يتحققا مالم يتم الإهتمام بالأفراد الذين يحتاجون العون والمساعدة  في مواجهة مصاعب الحياة، وتوفير فرص العيش الكريم.
مظاهر التكافل الإجتماعي كثيرة ومتعدة، جزء تبنته الدولة، والجزء الأخر يقع علي عاتق المجمتمع المدني من مؤسسات خيرية وأحزاب سياسية، تتكاتف دعوتهم المستمرة من أجل تحقيق المساواة والعدالة في المجتمع وتوفير وتأمين أكثر من جانب لفئات ألجأتهم الظروف إلي استحقاق المساعدة.
مساعدات الدولة تحت مظلة  إجراءات الحماية الإجتماعية للفئات الأكثر احتياجا تتجلي صورها منها برنامج تكافل وكرامة الذي يقدم دعما نقديا لنحو  3.6مليون أسرة، مع زيادة الانفاق الحكومي المستمرة سنويا علي برامج الحماية الإجتماعية، وقد أدركت الحكومة المصرية أهمية العدالة الإجتماعية وإعادة توزيع الدعم ليصل إلي مستحقية من خلال مؤسسات الدولة المعنية بهذا الأمر. هذا فضلا عن جهود منظمات المجتمع المدني التي تعمل بالتوازي مع مؤسسات الدولة من خلال مؤسسة "مصر الخير" و"تحيا مصر" والجمعيات الخيرية ونشاط الأحزاب الفاعلة علي أرض الواقع.. كل هذه المؤسسات تمتلك قاعدة بيانات كبيرة بكل مستحقي الدعم والمساعدات وتنشط هذه المؤسسات في المواسم والأعياد ولاسيما شهر رمضان الكريم، كما أن لها دور عظيم في التصدي للكوارث والأوبئة وهذا ماشهدناه خلال فترة جائحة "كورونا"، فضلا عن المساعدات الشهرية التي تقدم للأسر الأكثر احتياجا.. اذن يمكننا القول أن الجهد الذي تقدمه مؤسسات الدولة والمجتمع المدني يشهد له الجميع، بما له صدي واضح علي أرض الواقع
لو تحدثنا عن هذا الجهد والعمل من أجل المحافظة علي المجتمع المصري بلغة الأرقام والتفاصيل للفئات المستهدفة من مشاريع تكافل وكرامة لاحتجنا إلي مجلدات كي نرصد كل البرامج والفئات المختلفة.. ولكن!،، نستوقف هنا  أمام ظاهرة يمكن أن تلتهم هذا الجهد العظيم وتضعنا أمام مشكلة كبري تندرج تحتها العديد من من المعضلات،، ألا وهي ظاهرة "التسول" التي عادت تشوه الصورة العامة للمجتمع المصري.. إن ظاهرة التسول  من الظواهر الإجتماعية المنتشرة منذ القدم، بل هي ظاهرة عالمية ولا تعاني منها مصر وحدها، رغم كل الجهود والدراسات والأبحاث التي قدمتها الجهات المختلفة إلا أن هذه الظاهرة مستمرة في الوقت الذي  تسعي فيه الدولة لتقديم  مساعدات عينية ومادية للفئات الأكثر احتياجا علي مدار العام- كما ذكرنا ملخص سريع-  لما يقدمه الجميع من أجل الحفاظ علي ثبات المجتمع.
ظاهرة التسول لها تداعيات وخيمة تهدد المجتمعات كافة، وهي عنوان عريض يندرج تحته ماهو أخطر من جرائم تشوه المجتمع بأسره،،، يعمل التسول علي زيادة نسبة البطالة، احتراف السرقة، ممارسة البلطجة، انتشار المخدرات، ممارسة أعمال منافية للأداب والأخطر من ذلك التسرب من التعليم، ولن أتحدث عن تأثير هذه الفئة علي السياحة المصرية والصورة النمطية التي ترتسم في ذهن السائح الأجنبي عن هذه الفئة... وغيرها من الأعمال التي تعصف بالمجتمع، وتنتهك انسانية من ارتضي أن يصبح متسولا، فالمتسول وظيفته استجداء الأخرين من أجل الحصول علي مساعدة مادية مدعيا الفقر والعجز والمرض.
أخطر أنواع التسول هو التسول الإجباري، كما في حالات الأطفال والنساء الذين يُجبرون على التسول، وأنواع أخري من التسول الذي يعتبره البعض أنه وظيفة وعمل من أجل اكتساب الرزق، ولن نتحدث عن التسول الإلكتروني الأكثر احترافا‘ فهذا النوع يحتاج إلي معرفة لغة التكنولوجيا.
بعد كل هذا، هل نقف عاجزين؟.. أعتقد أن لدينا من الأفكار والمسئولية تجاه المجتمع من أجل التصدي لهذه الظاهرة، وهنا أتوجه بمطلبي هذا إلي صناع القرار من المجتمع المدني سواء مؤسسات خيرية أو أحزاب مصرية بما تمتلكه هذا المؤسسات من تواصل مع المجتمع بأن تقدم مبادرات والبحث والتنقيب عن حلول جادة وأفكار مبتكرة.. علي مؤسسات المجتمع المدني أن تعمل كما كان يعمل مقاول الأنفار “فتحي الفكاهي” في فيلم "أفواه وأرانب"ترتب أوراقها وتفحص قاعدة بياناتها ودراسة المشكلة وتقديم حلول ومبادرات بالتعاون مع مؤسسات الدول والبحث عن فرص عمل لهذه الفئات..  ليس عيبا أن تعمل مقاول أنفار ولكن بطريقة عصرية، تقوم برصد المشكلة ووضع حلول مناسبة، من خلال دوائر الاتصال المحيطة بكم.
أتمني ان تتبني الأحزاب ذات الشعبية الكبيرة مبادرة لفكرة عمالة بـ"اليومية" مع أصحاب المصانع، وتوفر وسيلة مواصلات ويقوم شباب الأحزاب بالتطوع من أجل القضاء علي ظاهرة التسول وإيجاد فرص عمل مناسبة.. وكما يقول المثل الصيني " لا تعطني سمكة ولكن علمني كيف أصطادها".. الأمر خطير وليس سهلا.