رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حلو وكداب.. دع الموبايل وابدأ الحياة

تحدثنا فى مقال سابق عن ما يمكن أن تعاينه من خلال جولة سريعة لمعرفة ما يفعله المصريون على مواقع التواصل الاجتماعى، وربما كانت هناك قصدية واضحة فى ضرب الأمثال بما يفعله الذكور فقط من ردود فعل لا تتفق مع ما عرفناه من عادات وسمات لن تجدها فى غير مصر، وأنك إن أردت أن تقول إن مصر ليست شعبًا واحدًا، ستجد ما يدعم تصورك، وإن أردت أن تنطلق من مقولة أن المصريين «شعب متدين بطبعه»، ستجد مئات الأمثلة التى تدعم رأيك هذا، فإن شئت تغيير الصفة من متدين إلى «هلاس» مثلًا، لن يعجزك العدد، ولا الأمثلة، ولا المواقف.. وغيرها عشرات الصفات والملامح والتصورات.
هذا عن الذكور، أما الإناث، فأرجو المعذرة، لست ذلك الأحمق الذى يكشف شوائبهن، إن وجدت، هكذا على الملأ، ولا ذلك الجرىء، ميت القلب، الذى يتحدث عنهن بسوء، فالمصريات فى الحياة هن المصريات فى الواقع الافتراضى، وإن قال عنهن العامة والدهماء إنهن «خميرة عكننة»، لا سمح الله، أو ادّعى عليهن جاهل أرعن بما ليس فيهن، يكفيك ما تقرأه على صفحاتهن من رسائل «صراحة» التى يحتكرنها، ولا تكاد تخلو صفحة لأنثى مصرية منها، وجميعها رسائل مدحٍ، وغزل عفيف، أو رغبة مكبوتة، أو أمل فى تواصل، أو تلميحاتٍ بحب لم يجد صاحبه فى نفسه الجرأة للاعتراف به «إن بابلك»، وجهًا لوجه، فإن لم تدرك النعمة التى أنت فيها من رسائل «صراحة»، فلديك رسائل «الأذرز»، تلك التى تغير اسمها مرات ومرات، دون أن يلتفتن للأسماء الجديدة، ولا يمر يوم دون أن تشعرك إحداهن بالمأساة التى تعيشها بسبب تلك الرسائل التى «انشكت فى إيديها» وفتحتها لتقرأ ما فيها، ولتعيش مع ما بها من غزل عنيف، وكلمات يحدوها رجاء الرد، والسلام، وتبادل الكلام، ويكون الرد عليها بالحظر العظيم، وإعلام الجميع بما جرى ودار، ليدرك الجميع ما هم فيه من نعمةٍ يجب أن يحمدوا الله عليها، ويبوسوا إيديهم «وش وضهر»، فهم لا زالوا يستمتعون بالصداقة الافتراضية مع تلك الحسناء «المطلوبة»، المرغوبة، والعفيفة، العنيفة، التى لا يعجبها «التلزيق»، ولا يكون ردها عليه بغير «التهزيق».
فإذا ما انتهيت من تلك الجولة العجيبة فى العالم العجيب، ونزلت إلى أرض الواقع، فلا بد أن تصيبك دهشة عظيمة، لا شك لدىَّ فى ذلك، إذ الفارق ما بين المصرى الواقعى وبين المصرى الافتراضى، جد كبير، بل لن أكون مغاليًا إن قلت لك إنه ربما لا تجد لما كونته من أفكار وتصورات، أى أصل فى الحقيقة، إلا فيما قل وندر.
هنا، فى أرض الواقع، رجل لا يتردد فى مد يد العون لكل ذى حاجةٍ، ولكل عابر سبيل، هنا كل ما تغنى به الشعراء.. الونس، والطيبة، والشهامة، والرضا بما قسمته يد الله، وما جادت به الحياة، هنا الأخ والصديق والسند، وهنا الخوف من الوقوع فى معصية، هنا المحبة الخالصة للحياة، وللناس، ولكل خلق الله.. النكتة الحاضرة، والقفشة المباغتة، والضحكة الصافية المجلجلة، تلك التى تصمت من أجل سماعها طيور السماء، الأرض المفتوحة للجميع، والحضن الذى يتسع لكل المخلوقات، والبيت الذى «يساع من الحبايب ألف»، اللقمة التى يمكن اقتسامها مع كل جائع، ولا يراها غير «لقمة هنية تكفى مية».. ولك أن تجرب أن تسأل عابرًا لا تعرفه ولا يعرفك عن أى شىء، أى شىء، لن يتردد ولو للحظة واحدة فى مساعدتك، وإن لم يكن يعرف إجابة سؤالك، فسوف يبحث معك عن من يعرف، لن يرتاح له بال إلا عندما يطمئن تمامًا إلى تلبية حاجتك.. جرب أن تمر بمقهى، أى مقهى، وأن تختار أى طاولة يجلس فيها مصرى بمفرده، ثم اجلس قبالته، على نفس الطاولة، دون سلام أو أى كلام، ثم بعد أن ترتاح قليلًا، قل أى كلام يخطر على بالك، اعزم عليه بسيجارة، احكِ له عن ما يؤرقك، قل شكواك، أو قل حتى نكتة خطرت على بالك.. وأعدك صادقًا أنه لن يرفض جلوسك، ولن يمتعض من حديثك، سيأخذ السيجارة، ويشعل لك سيجارتك، وسيبحث معك عن حلول لشكواك، ويرد على نكتك بأخرى.. وسيمتد حبل الكلام بينكما كأى صديقين يعرفان بعضهما بعضًا منذ سنوات، وربما تتفقان على موعدٍ للقاء مقبل بعد أن تتبادلا وسائل الاتصال.
ذلك المشهد الفاتن لن تراه فى غير القاهرة أو الإسكندرية، فى المنصورة، أو شبين الكوم، فى المنيا وسوهاج والأقصر، فى طنطا أو فى السويس.. وحتى فى بنها لن تجد ذلك الذى نقول إنه «عامل من بنها».. فى أى ركن أو نجع أو قرية صغيرة فى عموم الخريطة المصرية، لن تجد غيره، هذا المشهد لن تجده فى غير مصر، ذلك الاحتواء، والفهم والطبطبة.. ذلك «الصفو نية»، وتلك الطيبة والجاذبية هى مصر الحقيقية، أو هى التى أعرفها وأحبها، ولا أعرف من أين تأتى تلك الشخصية الافتراضية، ولا إلى أين تذهب عندما تنفد الباقة أو يتحول الهاتف الذكى إلى «فاصل شحن»؟!
شخصيًا، لا أعرف لماذا كلما أمسكت بهاتفى المحمول بنية تصفح مواقع التواصل الاجتماعى، نطت فى رأسى كلمات الرائع مأمون الشناوى التى تغنى بها عبدالحليم، وهو يلاحق فاتن حمامة، بعد أن «لطعته» على كوبرى قصر النيل «ليه تكدب عليا من أول ميعاد.. ده حرام الأسية»؟!.. ويبدو أنها أصبحت متلازمة شخصية، فكلما فكرت فى قتل بعض الوقت بالفرجة على ما يتداوله الأصدقاء على هذه المواقع، تحسست رأسى، تحسبًا لذلك المجهول القادم من العالم الافتراضى.. كثير من الأكاذيب والمغالطات وسوء الفهم، وبعض الحقائق والمعلومات.. والنكات والفيديوهات أو الصور اللطيفة، حتى إننى أحيانًا ما أنظر تجاه هاتفى المحمول، وهو يحتل ركن مكتبى، وأقول له: فعلًا.. حلو وكداب.
«من كتاب يصدر قريبًا بنفس العنوان عن دار (سما)»