رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طابورنا الفوضوى!

 

تدب الفوضى أمام المصالح الحكومية الحيوية كثيرا؛ فينادى المنادى، من داخل المصلحة أو من خارجها، بأن يصنع الناس طابورًا يخفف التزاحم والتصاخب ليستطيع الموظفون إنجاز أعمالهم بتركيز وهدوء، ويستطيع ذوو المصالح قضاء مصالحهم ببساطة ويسر، يستجيب الناس وينشئون طابورًا بالفعل، لكن الطابور نفسه يصير فوضويًا كالحالة الأولى بعد قليل؛ لأن التزاحم والتصاخب صارا سلوكين راسخين للأسف، من الصعب خلخلتهما بالرغم من علم الجميع بفسادهما وعدم جدواهما.
يأتى أحدهم متأخرًا فيجد الطابور طويلًا فيدعى أنه يستحق التقدم لأن لديه ظروفًا تمنعه من الانتظار، هكذا، أو تشتبك امرأة مع التى خلفها بالألفاظ السوقية أو الأيدى فالسيدة التى فى الخلف، كما قد تزعم الأمامية، تدفعها بقوة بين الفينة والأخرى، فى حين أن توقف الطابور عن الحركة لا ذنب لها فيه.. الغاية تبدأ حلقة جديدة من الفوضى العارمة فى وجود الطابور الذى صنعه الناس أصلًا ليحجموا فوضاهم.
لقد فشلت فى تنظيمنا الطريقة الاعتيادية، فشلت منذ سنين وازداد فشلها بمرور الوقت، أو بالأحرى أفشلناها ولم تفشل من تلقاء نفسها، والواجب أن نبحث عن طريقة ناجحة تتحدى تمردنا المذموم، طريقة تثبت النظام وتمحو الفوضى، نشعر خلالها باحترام الأنفس والآخرين، ونعود الأجيال الجديدة بعض عادات طيبة.
لا بأس من البحث طبعًا، وإن استقر فى رأيى أن محاولة إنجاح ما فشل أفضل من البحث عن ما نظنه لن يفشل، ففى المحاولة المقصودة تحد للذوات وإصرار على معاودة ما كان مع عدم تكرار الخطأ، والطابور، فى أول الأمر وآخره، موجود لدى كل العالم كما لدينا، لا يكلف البشر شيئًا على الإطلاق، بل فى إطاره تظهر صورتنا مرتبة ومتحضرة بالإجمال.
لبيرم التونسى، الزجال الكبير الراحل «1893- 1961»، زجلية يصف فيها اصطفاف الجواميس للشرب من نهر النيل، الاصطفاف الجميل المدهش، يثنى على مخلوقات الله مقارنا إياها بالقبيلة الإنسانية التى لا تقوى على هذا الاصطفاف البتة، والتى يبدو أن حالها، منذ الأزل، هو حالنا الآن نفسه؛ ولا غرو فهى الوراثة.
يبدأ زجليته «الزحام» قائلًا:
«شوف الجاموس لما يشرب من شطوط النيــــل
الواحده جنب اختها واقفين فى صف جميـــل»
وينهيها هكذا:
«وانظر وشوف البنى ادم بتوع ده الجيـــــــل
كل الامور عندهم بالزغد والتشضيـــــــــــــل
قالوا اللى ميكونش فى الأول ده يبقى عويل
ومن كده بالقليل فى كل زحمه قتيــــــــــــل
والله البهايم ولا أولاد قابيل وهابـــــــــــــيل»
..
لقد مر زمان طويل على تلك الزجلية، لكنها ما زالت خالدة، لأن موضوعها لا يتغير مهما تغيرت الأزمنة، وهذا بيت القصيد، بماذا يفيد التقدم العلمى والتكنولوجى الذى يجرى مع جريان الأوقات ما دام الآدمى نفسه متخلف المظاهر والأعماق. 
علينا أن نطور أشكالنا وجواهرنا، قبل أن يركلنا الدهر ركلته الأخيرة المهلكة.