رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الموت البطيء.. الجدري والسحايا ينتشران في غزة: «لا علاج لا أمصال لا مستشفيات»

الموت البطيء
الموت البطيء

لم تغفل عين إيمان إسماعيل في تلك الليلة، إذ ظل ابنها عمرو 7 أعوام، يتقيأ لساعات طويلة ويشتكي من آلام حادة في معدته. لا توجد مراكز صحية قريبة لعلاجه وعربات الإسعاف تعطل أغلبها عن العمل نتيجة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.


تعيش إيمان الفلسطينية وأبنائها الأربعة الآن أسفل أنقاض منزلها بالقرب من مخيم الشاطئ غرب القطاع، بعدما دكّه طيران الاحتلال في 24 أكتوبر/ تشرين الماضي خلال غارة عنيفة خلّفت جرحى وشهداء كان زوجها من بينهم.


تقول: «فوجئت بعد انتصاف الليل بمعاناة ابني الأوسط من إسهال شديد، لا أعرف أسبابه نحن لا نأكل ولا نشرب كل شيء نفد، ذهبت إلى مستشفى الشفاء الذي خرج أغلب أقسامه عن الخدمة ويعج بالجرحى والمصابين وفوجئت هناك بحالات لأطفال كثيرين يعانون الأعراض نفسها».


*الإسهال هو تبرز مائي سائب على نحو متكرر نتيجة وجود فيروس يصيب المعدة

المصدر - منظمة الصحة العالمية

مخيم الشاطئ


بعد ساعات طويلة من الانتظار نتيجة التكدس في المستشفى، خضع عمرو للكشف الطبي، ليخبرها الطبيب أنه مصاب بمرض معوي نتيجة تلوث: «المخيم مُكدس علينا ونستخدم جميعًا حمام واحد ونشرب المياه الملوثة لعدم وجود بديل».


توضح إيمان لـ«الدستور» أن هناك حالات انتشرت في المخيم للإسهال والجدري والنزلات المعوية والبرد، والأولوية في المستشفيات الآن للجرحى، حتى الصيدليات لا يوجد بها دواء للعلاج: «تعتمد على وصفات طبيعية يصفها الصيادلة لنا لكنها لا تجدي في الشفاء مثل الشاي بالنشا أو الرمان المُر إذا توافر».
 


يضم مخيم الشاطئ 90 ألف لاجئ وبه مركز صحي وحمام واحد ويعاني الحصار الإسرائيلي منذ بدء العدوان
المصدر -  وكالة الأونروا
 

تفتك الأمراض المعدية بسكان قطاع غزة شمالًا وجنوبًا، بسبب تكدس الملاجئ والمخيمات وشح الأدوية وانتشار الطعام منتهي الصلاحية والمياه الملوثة إلى جانب الطقس البادر، وعدم قدرة المصابين بتلك الأمراض على العلاج نتيجة ازدحام المستشفيات بالجرحى ما ينذر بكارثة صحية وشيكة بالقطاع.

مسؤول باليونيسف: «360 ألف حالة عدوى بالقطاع».
يؤكد ذلك سليم عويس، مسؤول الإعلام في منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف» بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ أُبْلِغ عما يصل إلى 360 ألف حالة موثقة من الأمراض المعدية في الملاجئ حتى 12 ديسمبر/ كانون الأول.


يتوقع أن يكون هذا العدد أقل من المتوقع إلى حد بعيد، فلا تستطيع كل الحالات الإبلاغ، مبينًا أن أغلب الأمراض كانت متعلقة بالمياه الملوثة مثل الجدري والإسهال، خاصة بعد هطول الأمطار والفيضانات هذا الشهر. 

سليم عويس


مسؤول الإعلام باليونيسف يوضح لـ«الدستور» أن المسؤولين بالمنظمة سجلوا حوالي 20 ضعف المتوسط الشهري لحالات الإسهال المبلغ عنها بين الأطفال دون سن الخامسة، وهو ثاني أكبر سبب لوفاة الأطفال في غزة نتيجة إصابة الجسم بالجفاف.


بالإضافة إلى زيادة حالات جدري الماء والتهاب السحايا والجرب والقمل واليرقان والطفح الجلدي، بحسب عويس، وهناك أكثر من 160 ألف حالة إصابة بالتهابات الجهاز التنفسي الحادة بسبب الدخان.
 


محمود يصاب بالربو بسبب الدخان
كان أنور محمود، فلسطيني، ضمن الذين أصيبوا بالتهابات في الجهاز التنفسي، إذ نزح من دير البلح وسط القطاع يوم 3 أكتوبر/ تشرين الماضي، إلى مخيم النصيرات جنوبًا، وأصيب فيه بالربو. يقول: «صدري يؤلمني بسبب الدخان من آثار الحرب. غزة أصبحت كومة من الركام وأشعر طول الوقت باختناق».
 

حين استهدف الاحتلال الإسرائيلي منزل محمود في دير البلح ظل ساعات يستنشق دخان الدمار والقصف، وبات ثلاثة ليال تحت أنقاض منزله، لازمه بعدها سعال حاد ومستمر يجعله يشعر بآلام شديد في الصدر، وحين حين نزح للمخيم لم يجد علاجًا فالصيدليات مغلقة وهناك شح في الأدوية.

 

*الربو هو حالة تضيق فيها الممرات الهوائية وتنتفخ تؤدي إلى سعال مستمر

المصدر - منظمة الصحة العالمية

مخيم النصيرات 


يوضح لـ«الدستور» أن المخيم بأكمله يعاني الأمراض، مثل الأمراض الصدرية بسبب الدخان، ونزلات البرد للأطفال بسبب عدم توافر أغطية كافية لهم، والنزلات المعوية نتيجة الطعام والمياه الملوثة، أما أصحاب الأمراض المزمنة كالضغط والسكر فلا يتوفر علاج لهم.


المخيم متكدس عن بكرة أبيه، بحسب محمود، ويستخدم قاطنوه الحمامات نفسها غير النظيفة التي تساهم في نشر العدوى، ويوجد 60 غرفة كل غرفة تضم ٤٠ شخصًا ومن يمرض لا يجد علاجًا: «يحد مخيم النصيرات مستشفى شهداء الأقصى، لكنها لا تستقبل سوى الجرحى فلا يوجد علاج أو مستشفيات».

 

خريطة انتشار الأمراض في غزة
لا يستبعد عويس أن يكون هناك تفش وشيك للأمراض، بسبب نظام الرعاية الصحية في غزة الذي يكاد يكون منهارًا، فقد تعرض 36 مستشفى أصل 47 للضرر أو الدمار، بينما تعمل المستشفيات الـ 11 المتبقية بشكل جزئي فقط، كما تعطلت خدمات التحصين في تلك المستشفيات ضد الأمراض المعدية مثل الحصبة وشلل الأطفال.


ويكشف الدكتور مروان الهمص، مدير مستشفى أبو يوسف النجار لـ«الدستور» خريطة انتشار الأمراض المعدية في قطاع غزة، موضحًا أن هناك 325 ألفًا و179 حالة بشكل عام أصيبت بأمراض معدية منذ بدء الحرب وحتى 18 ديسمبر/ كانون الأول.

الدكتور مروان الهمص


يضيف: «95 ألفًا و652 حالة إسهال عادي، و350 حالة إسهال مزمن بالدم، و1903 حالات أصيبت بالتسمم الغذائي، و112 حالة التهاب سحايا، والصفرا سجلت 4196 حالة، والجدري المائي 4395 حالة، والطفيليات المعوية 17 ألفًا و511 حالة، أما أمراض الجلد سجلت 35 ألفًا و305 حالات، منها الجرب سجل 19 ألفًا و325 حالة».


بينما يرجع مسؤول اليونيسف سليم عويس، سبب انتشار كل تلك الأمراض في القطاع، إلى عدم توافر الغذاء أو الماء أو المأوى أو الدواء في ضوء الاحتياجات المهولة، كما أن الظروف المعيشية ساعدت على التفشي بسبب الازدحام وسوء الصرف الصحي ومحدودية الوصول إلى المياه النظيفة التي ساهمت في انتشار جدري الماء.

الجدري المائي يفتك بأبناء غزة
طال جدري الماء جسد خالد، طفل فلسطيني 12 عامًا، إذ تفاجئ والده بظهور طفح جلدي في أنحاء جسده، وحبوب منتفخة بالماء ذات لون أحمر داكن، وحكة شديدة نتجت بسبب عدم خضوعه للعلاج عقب الإصابة بالجدري.


يقول والده لـ«الدستور»: «وصلت الحكة إلى حد النزيف فالمراكز الصحية أما خرجت عن الخدمة أو تعج بالجرحى ولا تستقبل المرضى»، اعتمد والده مجبرًا على وصفة بدائية وصفها لها صيدلي من أجل تخفيف الألم عن جلده.


*الجدري هو عدوى فيروسية خطيرة ومميتة في أغلب الأحوال تظهر على هيئة حبوب حمراء

المصدر - منظمة الصحة العالمية


كانت الوصفة عبارة عن وضع بيكربونات الصوديوم على بقع الجدري حتى تتماثل للشفاء: «كانت مؤلمة لابني ولم يستطع تحملها ولكنها عالجت الجدري بنسبة بسيطة وخففت الحكة».


تدعم اليونيسف  حاليًا توصيل خمسة أنواع رئيسية من لقاحات الأطفال والتي من المتوقع أن تصل إلى العريش هذا الأسبوع، وستغطي هذه الإمدادات حاجة التلقيح الروتيني للأطفال في غزة لمدة عام واحد، ومن المتوقع تسليم 6 لقاحات إضافية بحلول نهاية الشهر.
المصدر - مسؤول الإعلام باليونيسيف لـ«الدستور»

استعدادت اليونيسف لإرسال اللقاحات إلى غزة

التهاب الكبد الوبائي والسحايا ينذران بكارثة صحية
ما يزيد تعقيد الأزمة، ليس انتشار الجدري وحده، ولكن رصدت مؤسسة جذور المتخصصة في قضايا الصحة العامة في غزة (غير حكومية) ظهور 50 حالة مصابة بالتهاب الكبد الوبائي والسحايا، وفق الدكتور أمية الخماش مدير المؤسسة.  


يوضح لـ«الدستور» أن تراكم النفايات سبب في تكوين بؤرة لانتشار الأمراض الوبائية، مبينًا أن هناك انتشارًا لالتهاب الكبد الوبائي والسحايا إلى جانب الجدري والإسهال، نتيجة استخدام مياه الأمطار الملوثة في الشرب دون معالجة ووجود طعام معلب منتهي الصلاحية.


الخماش يؤكد أن جدري الماء المنتشر في القطاع الآن يمكن أن تنتقل عدواه بلمس الطفح الجلدي مباشرة، أو استنشاق الرذاذ المحمل بالعدوى الخارج مع سعال شخص مصاب بجدري الماء أو عُطاسه، كل تلك الأمور تحدث في مراكز النازحين بسبب الازدحام ووجود الأطفال في أماكن مغلقة.


ويرى أن الحل في عودة المياه النظيف والآمنة، وتصريف النفايات، وإيجاد مأوى صحي ومياه شرب غير ملوثة، إلا وسوف تنتشر هذه الأمراض، وتشكل كارثة صحية لن تطول القطاع فقط ولكن الدول المجاورة.

الدكتور أمية الخماش

أماكن انتشار الأوبئة
ويتركز انتشار تلك الأوبئة والأمراض في مراكز النازحين بمدينة رفح وفق الدكتور مروان الهمص، بسبب نزوح مليون شخص إليها وعدم قدرة المراكز الصحية على الاستيعاب، مبينًا أن مستشفاه بها 160 مصابًا بالأمراض المعدية رغم أن بها 62 سريرًا فقط، فيُستخدم الخيم والممرات.


منذ بداية الحرب، نزح نحو 70% من سكان قطاع غزة، الذي يسكنه 2.3 مليون نسمة، فهناك مليون و400 ألف مواطن أصبحوا نازحين موزعين على 223 مركز إيواء. 
المصدر -  المكتب الإعلامي الحكومي في غزة


ويحذر الهمص من تدهور الأوضاع مع اشتداد الشتاء وظهور أمراض الإنفلونزا الموسمية، لاسيما مع شح الأدوية الذي تعانيه كل مستشفيات غزة حاليًا وعدم وجود الأمصال واللقاحات اللازمة.

 

مازال يزيد انتشار الجدري في جسد خالد بسبب عدم حصوله على علاج أو مصل، بينما لا يكف محمود عن السعال المستمر، فيما تستمر إيمان باستخدام طرق بدائية أملًا في علاج ابنها من الإسهال وآلام المعدة، وتقصف إسرائيل المستشفيات لتزيد تعقيد الأزمة.