رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الناعقون على شجر يوتيوب!

مع الأحداث الجسيمة التي تقع في عالمنا العربي بالذات، كالكوارث الطبيعية والثورات والحروب والأمور المستغربة وما إلى ذلك، يمتلئ يوتيوب بالمحللين الاستراتيجيين الذين لا شأن لهم بالتحليل ولا الاستراتيجية من قريب ولا بعيد؛ لذا يصيرون كالغربان الناعقة في فضاء يوتيوب، لا سيما وهم يحبذون الانتكاسات بكل أشكالها وألوانها، ويتمنون القيامة، ويبشرون بقرب حلولها كلما طلعت شمس وزقزق عصفور!
ما أكثر هؤلاء للأسف! وما أقل المتكلمين الراشدين! لقد صنع الفضاء اليوتيوبي، والعيب ليس فيه بالتأكيد، أبطالًا ورقيين، يستقطب صياحهم فضول الجماهير فيلتفون حول قنواتهم الجوفاء التي يوهم الصياح بامتلائها الواهمين، وهي، في أول الأمر وآخره، لا شيء..
قلت لصاحب قناة من هذه القنوات مرة: هل تصدق ما تقوله؟! وكانت إجابته صادمة للغاية: لا بد أن أقول ما أقوله، مرتديًا لكل واقعة ما يناسبها، ومبالغًا في ذلك ما أمكنتني المبالغة؛ لأن هذا عملي الذي أفتح منه بيتي وأطعم أطفالي وأجدد بنزين سيارتي..
صارت المسألة ارتزاقًا إذًا، والمرتزق خادم ما يرتزق منه، ولو اضطر إلى الكفر بما يؤمن به لأجل بلوغ الغاية، وحتى الآن لا توجد رقابة على الموضوع، رقابة ضرورية وليست قهرية، تتأمل الوجوه والأسماء وتفتش في الكلمات والمضامين، علها تفرز الخير من الشر والجيد من الرديء، وتنبه إلى خطورة الخطرين غير المسجلين!
المتشددون الدينيون أغلبية، والمعارضون الأغبياء أغلبية، والهاربون من بلدانهم أغلبية، والشاغرون الذين يحبون التسلية أغلبية، والشهوانيون الذين يعبدون الماديات أغلبية، ولا أغلبية لذوي العقول الذكية والضمائر اليقظة طبعًا، لا أغلبية لهم هناك على الإطلاق للأسف.
برنامج يوتيوب متاح للجميع، بمثابة ميكروفون في أيدي الناس بلا تمييز، وقد تزامن وجوده، ضمن برامج أخرى، مع الدعاوى العولمية، أو تلاها بعد فترة، وهي دعاوى مريبة كلها، إن كنت برأته من قبل فقد برأت آلية يتحكم فيها الإنسان، وإن كنت أدينه الآن فأنا أدين آلية تتحكم هي في الإنسان!
كم أود أن أنام وأصحو فأجد الفضاء اليوتويبي نقى نفسه من الدخلاء، لكنها الأحلام الخاصة التي يمكن وصفها بالمثالية المستحيلة فعلًا؛ فلا هو قادر على الفلترة الذاتية، ولا يعرف قصتها من قريب ولا بعيد، بل ربما ناقض وجوده مثل هذا التمني كما سبقت الإشارة، ولا الناس أنفسهم لديهم استعداد للاستغناء عنه، الناس على اختلاف أفكارهم وانتماءاتهم ومراجعهم، وقد ربحوا الشهرة العريضة والمال الوافر من خلاله، وصارت لمعظمهم آراء في المواضيع الحساسة والقضايا الشائكة، والواقع أنهم بلا آراء ولا قيمة ولا وزن من الأساس.. وأما المتابعون فيتسلون ولو بالخديعة!
نحن، النبهاء الواعين، يجب أن نقوم بهذه الفلترة بأنفسنا فنتخلص من الشوائب العالقة بالفضاء الحميم، وشيئًا فشيئًا قد نخلصه هو منها، وهكذا نستريح ونجعله مثلنا يستريح.