رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يعقوب الشارونى.. وداعًا

هل تتصور عزيزي القارئ أن أيًا من المبدعين وأصحاب القلم يمكنه أن ينذر حياته كلها لصالح الإبداع للأطفال دون غيرهم؟ أظن أن مجرد طرح هذا السؤال قبل عقدين كان سيواجه بكثير من الاستنكار، وكنت سألاحق بعشرات الاتهامات بالتخلف وعدم الوعي بأهمية الكتابة للطفل. أما حين أطرح هذا السؤال اليوم فسأجد- على الأقل- نوعا من الجدل بين من يردون بالإيجاب، ولكنني سأجد آخرين غيرهم يرون أنه من الصعب، بل ربما من المستحيل على المبدعين أن ينذروا حياتهم للكتابة للأطفال. ومبرر هؤلاء قد يكون منطقيا، إذ إنهم لو فعلوا ونذروا حياتهم ووجهوا إبداعهم للأطفال دون غيرهم، فإنهم لن يجدوا سوقا رائجة لمنتجهم الإبداعي.

نعم، صار من النادر جدا أن نجد مبدعا يكرس كل جهده لصالح الأطفال والناشئة، خاصة مع تراجع نسبة المهتمين بالقراءة من الأطفال، وعدم اهتمام أولياء الأمور باقتناء الكتب التي تخاطب وجدان صغارهم. أعتقد أن هناك من الآباء والأمهات من سينبري للقول بأن الكتاب صارت له بدائل كثيرة أقلها الكتاب الإلكتروني، وأن الألعاب الإلكترونية أصبحت البديل العصري الذي يشغل الأطفال وينمي عقولهم.

أظن أنه من العبث أن نناقش اليوم جدوى القراءة بالنسبة للأطفال، لأنها واحدة من المسلمات التي لا تحتاج نقاشا. لكنني سأخصص هذه المساحة للتذكير برجل من صناع الإبداع المقروء من خلال الكتاب. إنه واحد من أصحاب الأفضال على جيلي وأجيال أخرى تالية، رجل لم يكتب عملا إبداعيا للكبار، ولم يهتم بأن يترك لنا رواية موجهة لغير الأطفال. رجل اختار الصعب وهو مداعبة خيال ذوي الخيال الواسع وأعني بهم الأطفال. إنه الرجل الذي حصل على ليسانس الحقوق، وحصل على 2 دبلوم للدراسات العليا أحدهما في الاقتصاد السياسي والآخر في الاقتصاد التطبيقي. ورغم ذلك، وأيضا رغم عمله في هيئة قضايا الدولة، إلا أنه اختار أن يوجه إبداعه وأن يكرسه لصالح الأطفال.
  بشّرت مسرحية "أبطال بلدنا " بموهبة الشاروني، الأمر الذي دفع الأديب الكبير توفيق الحكيم لترشيحه للحصول على منحة تفرغ عام 63 حتى يتفرغ لإنجاز عمل أدبي يستثمر موهبته. ويستمر سيل إبداع الشاروني الموجه لفلذات القلوب وذخيرة المستقبل لينتج للمكتبة العربية نحو 400 منتج أدبي يخاطب بهم الطفل العربي. ولتكلل هذه المسيرة الإبداعية الحافلة بالحصول عام 2002 من معرض بولونيا لكتب الأطفال على جائزة أفضل كتاب أطفال على مستوى العالم، وليتم تكريمه محليا من جهات عديدة كان آخرها الفوز بجائزة الدولة التقديرية في مجال الآداب عام 2020.
   لم يكن الشاروني هو أول من أبدع للطفل في مصر، فهناك أيضا الرائد كامل كيلاني، وعبدالتواب يوسف، ولكنه صار يعد ثالث الثلاثة من الفرسان الكبار في هذا المجال بحكم غزارة إبداعه التي أمّنتها له موهبته الكبيرة وإخلاصه الشديد لعالم الطفولة وعمره الطويل. وبعد إعلان رحيل الشاروني عصر الخميس نعاه رئيس هيئة الكتاب ووصفه بأنه كان " شديد الغزارة شديد التنوع شديد التأثير"، فاجأني فأسعدني وفي ذات الوقت آلمني إعلان د.أحمد بهي الدين اختيار الراحل الكبير كشخصية العام لمعرض القاهرة الدولي لكتب الأطفال في دورته الـ 55 والقادمة بعد أقل من شهرين. وهنا قلت في نفسي: كم كان سيسعد الشيخ الكبير صاحب الاثنين وتسعين عاما أن يتم الاحتفاء به في وطنه وهو على قيد الحياة وسط آلاف الكبار عشاق الكتاب الورقي من الذين يحرصون على ارتياد معرض الكتاب حتى اليوم، وهم في معظمهم ممن نشأ على حب القراءة بسبب إبداعات الرجل التي خاطبت وجدانهم في سن الطفولة فنشأوا على حب فضيلة القراءة منذ بواكير صباهم.
    كم من مرة شاهدته في ردهات ماسبيرو متجولا بين الاستديوهات التي كانت تبدع أعمالا للأطفال منها ما كان برامجيا ومنها ما كان إبداعيا بين الأغنية والدراما والكارتون. كان الرجل دائم الابتسام شديد الوداعة، يتميز بصوت هادئ وحقيبة جلدية سوداء عتيقة كانت لا تفارق يده، ومن السهل أن تستنتج من شكلها أنها مكدسة دائما بأوراق وقصاصات وكتب تحمل أفكارا تمت ترجمتها في إبداعات مطبوعة أو مشاريع لإبداعات أخرى يعدها للنشر.
    أتمنى ونحن نشيّع الرجل إلى مثواه الأخير أن نهتم بجمع ما لم ينشر من إبداعاته وأن تتبنى هيئة الكتاب طباعتها لتصدر في احتفالية معرض كتاب الطفل به بعد نحو شهرين. كما أناشد المبدعين في مجال صناعة الكارتون أن ينظروا لإبداعات الشاروني لتحويلها إلى أعمال تتناسب مع لغة العصر لتصل أعماله لأطفال الجيل الحالي، فهي في مجملها قصص وحكايات من حياتنا اليومية ومن تراثنا العربي الذي يجب ألا نهجره أو نتجاهله للحفاظ على هويتنا بقصص تشبهنا.