رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هرموبولس الجديدة.. العودة للجذور من أجل الحاضر والمستقبل «3-3»

الاحتفال بالذكرى الخمسين لعميد الأدب العربى دكتور طه حسين، تحت عنوان: «الأيام من بيتوزيرس إلى طه حسين»، كان موضوع الدورة التاسعة لمهرجان «تحوت» الأدبى، الذى يحمل اسم سيد الكتابة فى مصر القديمة، وهو إحياء لمهرجان مصرى قديم كان يقام من أجل الاحتفال بقوة الكلمة الإبداعية». 

وبيتوزيريس هو الكاهن الأكبر للإله «تحوت» سيد الأشمونين، والذى توجد مقبرته الرائعة على بعد خطوات من استراحة عميد الأدب العربى، وبهذا يربط المهرجان بين الفكر المصرى القديم والمعاصر، كما تسعى مُنظمة المهرجان الدكتورة ميرفت عبدالناصر أن يأخذ المهرجان صفة العالمية كأول مهرجان أدبى وتراثى فى مصر يسلط الضوء على منطقه تونا الجبل بتراثها الملموس وغير الملموس والممثل فى فكر وفلسفة هرموبوليس القديمة.

بعد وصولنا لواحة هرموبوليس الجديدة بدأ برنامج المهرجان بعد تناول غداء سريع لطبق الكشرى، الذى أتمنى ألا نتهاون فى حقه وتسجيله باسم مصر فى مشروع حفظ التراث اللامادى، وقد أشاع وجود عربة كشرى بمكوناتها، والتبارى فى طلب «كمالة» أو مزيد من الدقّة أو الشطة جوًا من المرح بين الحضور. 

وقبل مغيب الشمس جلسنا متخذين بكراسينا شكل قوس كبير، محاطين بمجموعة من المواهب الفنية من شباب لا تزيد أعمارهم على العشرين، وهم فرقة كورال جمعية الصعيد بالمنيا الذين أحيوا ذكرى العميد، من خلال تقديم أغانى مسلسل «الأيام»، استمتعنا بالأداء المذهل للمطربين الصاعدين، الأصوات القوية والأداء المعبر المرهف والحساس للحالات المختلفة التى عاشها طه حسين بين الهزيمة والانكسار وحصار العمى والفقر والجهل، ولحظات الأمل وإشراقة النور فى حياته وبلوغه ما يتمنى. 

استطاعت الأصوات الشابة، وحتى التى لم تتجاوز طور الطفولة أن تجسد أحاسيس طه حسين، هذا الرجل الذى منحه الله البصيرة وقيد له الملحن العبقرى عمار الشريعى، كى ينغّم ويصور كلمات الملهم سيد حجاب، الذى عبر عن مشاعر وأحاسيس طه حسين كما لو أن روح طه حسين قد تلبسته، فكلمات الأغانى لو قدر لطه حسين أن يكتبها، ما كان سيكتب أدق وأشعر مما كتب سيد حجاب. 

وقد حرصت الفنانة ميرفت الجاسرى، زوجة الشاعر الراحل، على المشاركة فى المهرجان بأداء بعض أغنيات المسلسل، وتقديم سهرة خاصة فى اليوم التالى مع فرقة الورشة للمخرج: حسن الجريتلى، تضمنت السهرة إعادة تقديم أغانٍ من تراث الغناء المصرى فى العشرينيات والثلاثينيات، ما يميز التجربة التى يتبناها المخرج حسن الجريتلى هو تقديم الأغنيات بنفس إيقاع وأداء تلك الفترة، ودون توزيع عصرى لألحانها كما فعل إيمان البحر درويش حين أعاد تقديم أغنيات جده خالد الذكر سيد درويش. 

قبل الاستمتاع بالعرض الفنى لفرقة الورشة، كنا قد أمضينا النهار الثانى فى وقائع المؤتمر الأدبى الذى تضمن مناقشات حول فكر طه حسين وكتابه العلامة «مستقبل الثقافة فى مصر» وقدم الدكتور فكرى حسن برصانته العلمية وقدرته الباهرة على الربط بين الظواهر المتنوعة، إعادة قراءة لهذا الكتاب المهم، وقدم الروائى حمدى البطران عرضًا لروايته عن سيرة العميد «طه الذى رأى» وقدم الشاعر علاء خالد، شهادة بالغة الرهافة والشاعرية عن طه حسين. وخلال ساعات ممتدة استمتعت بمناقشات ومداخلات الأساتذة دكتور كمال مغيث، الذى أضاف للحضور جوًا من البهجة بحفظه وقدرته على ترديد عشرات الأغانى والمأثورات، والدكتور مصطفى جاد، الذى روى لنا تجربته فى مصاحبة العالم الجليل عبدالحميد يونس، الذى كان كفيفًا، والصديق الكاتب الصحفى سيد محمود، وغيرهم من الأعزاء الذين سعدت بوجودى معهم خلال هذا المهرجان، الذى أتمنى أن يتم تسليط الضوء عليه والاهتمام به، والتكاتف مع مؤسسته الدكتورة ميرفت عبدالناصر للاستفادة من النواة التى غرستها فى قلب صحراء المنيا، وجعلت منها واحة قادرة على أن تمد أشعتها لقرى ومدن الصعيد بالمعرفة والعلم فيتحقق حلم النهضة المصرية من أجل الحاضر والمستقبل.

قبل الختام.. 

ما إن تطأ قدماك واحة هرموبوليس الجديدة حتى تغشاك سكينة وراحة، تهدأ حواسك الظاهرة، فتجلس على حافة البحيرة، تصغى لأصوات طيور تميز من بينها صوت الكروان، يتحسس نظرك البساط الأخضر المنبسط عشبًا أرضيًا، يخطفك زهو الأحمر والفوشيا زهورًا تفترش جدران أجنحة الإقامة، تعود العين لتتأنى عند الحجارة المتجاورة والمتراصة واحدة تلو الأخرى، تعلو مع الأفق الأزرق لسماء لا تعرف الغضب، فتكون قبابًا نصف دائرية، من قمة القبة تعود لتنحدر ببصرك صوب الأرض حيث الأصل والمستقر، وقد تختار أن تجلس بين تفرعات شجرة جميز عتيقة تعرف أن جذورها تصل إلى أبعد نقطة فى صفائح الأرض، وترفع وجهك لتصافح حبات جميز تتلاحم متجاورة فى ألفة وتعاضد بألوان مائية فيها من الأصفر والأحمر والبنفسجى، تداخلات لونية تمنح لوحة السماء خلفها لطفًا وتبعثر حدة أشعة شمس الظهيرة فى بلاد آتون. 

فى الرحلة الأبدية بين السماء والأرض، فى ديمومة التأمل والارتقاء والوصل تجد الروح مأواها، وتتفتح ضروب الوعى وتتحول الأبواب لمعالم لبدايات الطريق، تحفز رائحة اللوتس المنبثقة من قلب الزهرة الزرقاء الطافية على سطح البحيرة كل حواسك كى تستنهض وتجاوز كل ما عرفت، كل ما اختبرت، يدعوها نداء أزلى بأن هناك المزيد، بأن أماكن مجهولة تنتظر أن تراها وأرضًا غير الأرض فى انتظار أن تطأها، أفكار وتجارب، ألوان ورؤى، كلها فى انتظار أن تدرك وجودها وتحقق وجودك.