رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المُبصر..  "الدستور" تنشر وثائق تاريخية نادرة عن طه حسين من أولى جامعة إلى الترشيح لنوبل

طه حسين
طه حسين

فى الخامس من ديسمبر ١٩١٠ توجه طه حسين أو «الشيخ طه»، الطالب فى الجامع الأزهر الشريف، إلى قسم «اللغة العربية» بكلية الآداب بالجامعة الأهلية المصرية، لدراسة اللغة العربية.. وقتها لم يمر على افتتاح الجامعة الأهلية «جامعة القاهرة الآن» سوى عامين، وكانت آنذاك تحت إشراف ولى العهد الأمير أحمد فؤاد باشا.

كانت نسبة الأمية منتشرة فى مصر، فحسب كتاب عبدالخالق لاشين «سعد زغلول ودوره فى السياسة المصرية حتى ١٩١٤»، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لم تبلغ نسبة من يجيدون القراءة والكتابة آنذاك سوى ٩.٧٪ من الذكور، و٢٪ من الإناث، وكان عدد التلاميذ يبلغ ٢٣.٠٨١ ألف من إجمالى سكان مصر البالغ عددهم ١١ مليونًا تقريبًا، حسب تعداد سكان القُطر المصرى المنشور فى إحدى مطبوعات نظارة المالية «المطبعة الأميرية ١٩٠٩، صفحة ١٢٢».

هذه الحالة التعليمية دفعت الحزب الوطنى للمساهمة فى أعمال النهضة القومية، ومنها التدريس فى «مدارس الشعب الليلية» التى أنشأها أواخر عام ١٩٠٨، وكان الغرض منها تعليم الفقراء والعمال مجانًا، ولم يوجد منها سوى ٤ مدارس فى القاهرة، تحديدًا فى أقسام: «الخليفة» و«بولاق» و«شبرا» و«العباسية». أما سياسيًا، فكانت مصر تحت حكم الخديو عباس حلمى الثانى «٨ يناير ١٨٩٢ حتى عزله فى ١٩ ديسمبر ١٩١٤»، وهو سابع مَن حكم البلاد من أسرة محمد على. من واقع الوثائق المنشورة فى ملف خاص عن طه حسين، فى العدد التذكارى النادر من مجلة «أوراق كلاسيكية»، الصادرة عن قسم «الدراسات اليونانية واللاتينية» بكلية الآداب جامعة القاهرة، عام ١٩٩٥، تحت إشراف الأستاذ الدكتور أحمد عتمان، وبمعاونة الدكتور محمد رمضان، الأستاذ فى قسم «التاريخ» بالكلية، الذى وفّر العدد لـ«الدستور»- نعيد اكتشاف رحلة «قاهر الظلام»، ونتتبع خُطى هذا الرجل الذى أضاء لنا الطريق، من سنة أولى جامعة إلى تولّى وزارة المعارف، بمناسبة مرور نصف قرن على وفاته فى ١٩٧٣.

الوثيقة الأولى: خطاب من «الجامعة المصرية» للتأكد من انتساب«الطالب طه حسين» إلى الأزهر الشريف

بعد قبول طه حسين فى الجامعة، وكانت اللغة التى يتقنها بالطبع «العربية» وبعض «الفرنسية»، حسب الوثائق، وتحديدًا فى ديسمبر ١٩١١، أرسل سكرتير الجامعة المصرية مكاتبة إلى جامعة الأزهر يستعلم فيها عن بعض الطلبة للتأكد من أنهم حاملون شهادات من الأزهر أو مقيدون به، لتقرير قبول انتسابهم بالجامعة المصرية، وكان من بينهم الطالب طه حسين.. لكن الأزهر تجاهل الرد.

فى ٢٨ مارس ١٩١٢ عاود سكرتير الجامعة المصرية مخاطبة شيخ الأزهر مرة ثانية للتأكد من موقف «الطالب طه حسين»، الذى لم يستدل على بياناته، ولم تُذكر جهة انتسابه إلى الأزهر، وذلك بعد أن تأكدت الجامعة من جهة انتساب الطلاب: «موسى عمران- محمد حسن- نايل المرصفى»، وغيرهم.. وقتها رد الأزهر على الجامعة بتأكيد انتساب «طه» إلى رواقه.

ورغم رد الأزهر على مخاطبة الجامعة المصرية، وإن جاء متأخرًا، فإن ما حدث يعد بداية لنواة خلاف تاريخى بين «الطالب طه حسين» والأزهر، وهو ما سنعود إليه لاحقًا.

بعد أن استتب الوضع لـ«طه حسين» فى الجامعة المصرية تقدم بطلب إلى رئيسها، فى ٢٤ أبريل ١٩١٢، لأداء امتحان خصوصى فى الدروس التى ألقيت بها فى «مقارنة اللغات»، وذلك فى سنتى «١٩١٠ الداخلة فى ١٩١١»، و«١٩١١ الداخلة فى ١٩١٢».

من وقتها دأب طه حسين على حضور دروسه فى الأزهر والجامعة المصرية حتى سنة ١٩١٤، وهى السنة التى نال فيها شهادة الدكتوراه عن أطروحته «ذكرى أبى العلاء»، التى أثارت ضجة فى الأوساط الدينية وداخل البرلمان المصرى، الذى اتهمه أحد أعضائه بـ«المروق والزندقة والخروج على مبادئ الدين الحنيف»، لتصدر أوامر من شيخ الأزهر إلى اللجنة الفاحصة بعدم منحه درجة «العالمية»، مهما كانت الظروف.

الوثيقة الثانية: أحمد لطفى السيد يرفض استقالته من عمادة «الآداب» رغم ضغوط «الوفديين»

بعد ١٢ عامًا على نيل طه حسين درجة «الدكتوراه»، وتحديدًا عام ١٩٢٦، عاد الصراع إلى أوجه بين «العميد» والأزهر، عندما صدر له كتاب «فى الشعر الجاهلى»، الذى أثار أيضًا معارضة شديدة، لأنه خالف فيه الأسلوب النقدى القديم المتوارث، ليقود الأزهر ورجاله معارضة شديدة ضد كاتبه، ويتهمون إياه فى إيمانه، وهو ما انتهى إلى سحب الكتاب من الأسواق لتعديل بعض أجزائه.

من الصراع مع الأزهر إلى صراع آخر مع «الوفديين»، خصوم «الأحرار الدستوريين»، الذين كان ينتمى إليهم طه حسين، حيث مارس عليه «الوفديون» كثيرًا من الضغوط حتى تقدم باستقالته من عمادة كلية الآداب.

لم يقبل الدكتور أحمد لطفى السيد، مدير «الجامعة المصرية» آنذاك، استقالة طه حسين، وأقنعه بأن الجامعة تحرص على بقائه، فتم تبعًا لذلك حفظ الاستقالة، وكان ذلك فى عام ١٩٢٧، وفقًا للوثائق.

وتذكر وثيقة للدكتور أحمد لطفى السيد، صادرة فى ٥ مايو ١٩٢٧، أنه التقى وزير المعارف فى وزارة عبدالخالق ثروت باشا الثانية، على الشمسى باشا، وأبلغه بأن الجامعة أقنعت الدكتور طه حسين بحفظ استقالته، لحرصها على وجوده فيها.

الوثيقة الثالثة: وظيفة «درجة ثانية» فى وزارة المعارف لـ«أستاذ اللغة العربية»

من الشائع فى المراجع التاريخية أن الدكتور طه حسين ابتعد عن الجامعة، خلال الفترة من ١٩٣٢ إلى ١٩٣٤، لينصرف إلى العمل الصحفى، ويشرف على تحرير جريدة «كوكب الشرق» التى يصدرها حافظ عوض، ثم اشترى امتياز جريدة «الوادى» وأشرف على تحريرها.

لكن هذا العمل الصحفى لم يعجب «العميد» فتركه إلى حين، قبل أن يعود إليه مرة ثانية من خلال الإشراف على رئاسة تحرير مجلة «الكاتب المصرى» عام ١٩٤٦، التى حصل من خلالها على حصته من الورق من قبل شركة الإعلانات الشرقية لصاحبها هنرى حاييم، والتى كانت تتحكم فى تجارة الورق داخل مصر أثناء الحرب العالمية الثانية.

ولم يحدث هذا مع مجلة «الكاتب المصرى» فقط، بل تكرر مع صحيفة «الشمس»، رغم صدور قانون يحرم بيع ورق الصحف والاتجار فيها، ويعفى وزارة التموين من مسئولية توفير الورق للصحف الجديدة، لكن مجلة طه حسين التى صدرت بعد هذا القانون حصلت على الورق عن طريق الشركة سالفة الذكر، حسبما جاء فى عدد صحيفة «التسعيرة» بتاريخ ٢٤ نوفمبر ١٩٤٥.

ويزعم عدد من المراجع التاريخية والمقالات الصحفية التى استشهدت بسيرته المنشورة عبر موسوعة «ويكيبيديا» عبر شبكة الإنترنت أن طه حسين، بعدما أصبح عميدًا لكلية الآداب بالجامعة المصرية منذ عام ١٩٣٠، رفض منح الجامعة الدكتوراه الفخرية لعدد من الشخصيات السياسية مثل عبدالعزيز فهمى وتوفيق رفعت وعلى ماهر باشا، ما دفع وزير المعارف، آنذاك، محمد حلمى عيسى باشا فى وزارة عبدالفتاح يحيى باشا، إلى نقله لوزارة المعارف «التربية والتعليم حاليًا»، لكنه رفض تسلم منصبه الجديد.

لكن وثيقة حصلنا عليها صادرة عن إدارة «المستخدمين» بوزارة المعارف، ومُرسلة إلى كلية الآداب بالجامعة المصرية، تثبت أن الدكتور طه حسين عُيّن فى وظيفة خالية بالوزارة على الدرجة الثانية، بصفته «أستاذ آداب اللغة العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية»، وذلك فى أول يوليو ١٩٣٥.

الوثيقة الرابعة: حصار فى فرنسا بسبب الحرب العالمية الثانية وطلب للجامعة: «كلفونى بأى عمل»

أثناء وزارة على ماهر باشا الثانية «من ١٨ أغسطس ١٩٣٩ حتى ٢٧ يونيو ١٩٤٠»، وكان محمود فهمى النقراشى باشا ما زال مستمرًا فى منصبه وزيرًا للمعارف، ذهب الدكتور طه حسين فى مهمة تعليمية بفرنسا، بعد أن تقدم باستقالته من عمادة كلية الآداب، وكان من المفترض أن يستمر فيها حتى عام ١٩٤٢.

لكن فى سبتمبر ١٩٣٩ وقع ما لم تحمد عقباه لـ«العميد» أثناء وجوده فى فرنسا، إذ اندلعت الحرب العالمية الثانية، وهو ما تسبب فى عرقلة سفره إلى مصر، وعودته إلى كلية الآداب لمواصلة مهام عمله بالتدريس.

ومن ضمن الوثائق التى حصلنا عليها خطاب أرسله طه حسين إلى عميد كلية الآداب، يتحدث فيه عن «حصاره» فى فرنسا بسبب الحرب العالمية الثانية، ويقول: «صديقى الأستاذ العميد ها نحن أولًا قد حصرتنا الحرب فى فرنسا، ولم نستطع العودة قبل إعلانها، ولست أدرى متى تتاح لنا هذه العودة، فنحن نبحث عن سفينة محايدة، وقد يطول هذا البحث وقد تتأخر عودتنا كثيرًا أو قليلًا، فأحببت أن تعلم ذلك، حتى إذا تأخرت عن موعد الدراسة، كان تأخرى لظروف قاهرة».

ويضيف طه حسين: «وقد أبرقت إلى حضرة صاحب المعالى وزير المعارف أطلب فيه تكليفى بأى مهمة فى فرنسا أو سويسرا، إذا لم تتح لى العودة قريبًا، ولست أدرى أتستطيع أن تعيننى على ذلك أم لا تستطيع، ولكنك تستطيع فيما أعتقد مع أصدقائنا أن تكلموا فى ذلك صديقنا السنهورى، ويخيل إلىّ أنى أستطيع أن أعمل شيئًا، وأظن أن إدارة البعثات فى سويسرا خالية، وأن مديرها الحالى لم يعد إليها بعد. فانظر فى ذلك مع أصدقائنا واكتب إلىّ إن استمرت المواصلات بين مصر وفرنسا منظمة، وسأكتب الآن إلى مدير الجامعة وأقرأ على السيدة الجليلة وعلى الأستاذ مراد.. تحياتنا خالصة وتقبل منا جميعًا أخلص الود»، قبل أن يذيل الخطاب بتوقيعه: طه حسين.

عاد طه حسين من فرنسا إلى القاهرة، وظل يدرس فى كلية الآداب بالجامعة المصرية حتى عام ١٩٤٢، وهو نفس العام الذى تم فيه تعيينه مديرًا لجامعة الإسكندرية «فاروق الأول سابقًا» حتى عام ١٩٤٤، عندما ترك الجامعة بعد إحالته إلى التقاعد، ثم صدر مرسوم بتعيينه وزيرًا للمعارف فى عام ١٩٥٠، وبقى فى هذا المنصب حتى عام ١٩٥٢.

الوثيقة الخامسة: موافقة بالإجماع على ترشيح «العميد» لجائزة نوبل

مرت السنون كالماء فى النهر حتى جاء عام ١٩٥٥، وقتها ذهب الدكتور طه حسين لأداء فريضة الحج، واستغرقت رحلته ١٩ يومًا، وكان لها صدى واسع فى كل مكان، حتى إنه كان فى استقباله الملك سعود، والأمراء والأعيان والوجهاء والأدباء، إلى جانب بعثة الأزهر الشريف.

وبعد عودة «عميد الأدب العربى» بنحو ٤ سنوات، عاد إلى الجامعة بصفة «أستاذ غير متفرغ»، كما عمل بعض الوقت كصحفى، حتى جاء عام ١٩٦٠، حين رُشح لنيل أرفع جائزة أدبية.

فحسب الوثيقة الخامسة والأخيرة التى بحوزتنا، والمؤرخة بتاريخ ٣٠ أكتوبر ١٩٦٠، وافق قسم «اللغة العربية» بكلية الآداب جامعة القاهرة بالإجماع على ترشيح الأستاذ الدكتور طه حسين لنيل جائزة «نوبل». وفى ٢٦ أبريل ١٩٦١ طلب مدير الجامعة من عميد كلية الآداب إعداد مذكرة عن الترشيح وأسانيده لعرضها على مجلس الجامعة.

واستمرت الأيام تمر بـ«العميد» حتى أصبح عضوًا ثم رئيسًا لمجع اللغة العربية فى القاهرة عام ١٩٦٣، حيث كانت محطته الأخيرة، قبل أن يستريح عقله وجسده فى ٢٨ أكتوبر ١٩٧٣، فى خضم انتصارات حرب أكتوبر المجيدة، عن عمر ناهز ٨٤ عامًا، دون أن يحصل على الجائزة، لكنه ترك أعمالًا ومؤلفات ومواقف لتلاميذه والأجيال التالية، نال عنها ما هو أهم من «نوبل».