رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صنع فى مصر... ولسّه كتير


   أعترف بداية أنني لا أجيد فهم الأمور الاقتصادية، ولا أحب الخوض فيها، وعلى الرغم من هذا فقد خضت تجربة مهنية من قبل عند وقوع الأزمة المالية العالمية خلال عام 2008، وفيها سعيت إلى استطلاع آراء عدد غير قليل من خبراء الاقتصاد والعارفين بدهاليز الأرقام ومدلولاتها؛ لإنجاز تحقيق إذاعي أسميته "أزمة نظام" ساعيًا إلى توضيح الأزمة وتبيانها لجمهور المستمعين. أذكر أنني جعلت منهجي في العمل بسيطًا للغاية، إذ وضعت معيارًا واحدًا يضمن قبول التحقيق جماهيريًا. كان معياري هو أن ما أستطيع فهمه كغير متخصص وغير محب للغة الأرقام، هو ما سأستفيد به في الريبورتاج، وما استعصى عليّ فهمه كنت أستبعده، لأنه غالبا سيكون غير مقبول من جمهور المستمعين، وبالفعل نال البرنامج جائزة أحسن تحقيق إذاعي عربي في ذلك العام من مهرجان القاهرة الدولي للإعلام.
      ومنذ ذلك الحين، جعلت ذات الأسلوب منهجي في محاولة فهم أي قضية اقتصادية يصعب عليّ فهمها، وأضفت إلى ذلك مؤخرًا متابعتي المستمرة لكل فعالية رئاسية يقوم فيها السيد الرئيس بتفقد أو زيارة أو افتتاح مشروعات جديدة، إذ اعتدنا في مثل تلك الفعاليات أن يترك الرئيس المنصة للمختصين، ليقدموا مداخلات أو يستعرضوا منجزات أو يفسروا قرارات، تتخللها مداخلات رئاسية تطلب توضيحًا أو تقدم تفسيرًا، أو تفرض توجيهًا، وهو في كل هذا يستهدف وصول المعلومة لنا كمواطنين ولغيرنا كمستثمرين يعنيهم معرفة تفاصيل الأمور حتى يقدموا على اتخاذ قرار الاستثمار بحماس يتغلب على الجبن الطبيعي لرأس المال وأربابه.
       من ذات المنطلق سأطرح هذا المقال على حضراتكم، إذ تابعنا مؤخرًا تقارير كثيرة تحدثت عن ارتفاع معدل التضخم وخفض التصنيف وتراجع الجنيه المصري أمام الدولار مع نقص واضح في السيولة الدولارية، وعدم استقرار سعر الصرف، وقام البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية بخفض توقعاته للنمو الاقتصادي في مصر لعام 2024 بنسبة 0.7 نقطة مئوية؛ لتصل إلى 4.5%، مقارنة بتوقعاته السابقة قبل خمسة أشهر، كما كشفت الأرقام عن أن 29 مليار دولار ديون مستحقة على الاقتصاد الوطني واجبة السداد خلال عام 2024. المطمئن في الأمر أن ديوننا يمكن وصفها بأنها ديون مؤمّنة؛ لأنها قروض غير تجارية، بمعنى أنها قروض مستحقة لمؤسسات دولية ولدول عربية شقيقة، وليست ديونًا استثمارية لبنوك أو عبارة عن سندات مثلًا. 
     تظل موارد المدخل الدولاري للاقتصاد المصري معروفة كقناة السويس والسياحة وعوائد المصريين في الخارج والتصدير، ولكنها محدودة قياسا بحجم نمو الاقتصاد المصري. والحقيقة أن الحكومة لم تقف مكتوفة الأيدي أمام تأثر ميزان المدفوعات بنقص العملة الدولارية الصعبة. فنجاح الحكومة الواضح في تقليل فاتورة الاستيراد من 75 مليار دولار في العام الماضي إلى 50 مليار دولار في نفس الفترة الزمنية هذا العام أمر يحسب لها.
      هناك تحديات فعلية تواجه الاقتصاد المصري؛ لذلك يرى الخبراء أن الحل الرئيس للأزمة الاقتصادية يكمن في التحول بالاقتصاد الوطني من اقتصاد تمويلي إلى اقتصاد تشغيلي، غير أن تطبيق هذا الأمر ليس سهلا على الإطلاق. وينصح خبراء الاقتصاد بأن تهدأ وتيرة الإنفاق الحكومي، والسعي لزيادة نسبة الصادرات من الناتج الإجمالي المحلي، كما يرى الكثير منهم ضرورة وحدة الموازنة العامة لكل الهيئات والمؤسسات الاقتصادية. 

ورغم كل المخاوف فإن الدولة تسعى جاهدة لبناء اقتصاد وطني قادر على المنافسة ويتمتع بالمرونة، وذلك عن طريق تحسين مناخ الاستثمار، وتعزيز معدلات النمو.  ورغم صعوبة الأوضاع السياسية الإقليمية المحيطة بمصر، إلا أن الدولة تمضي في اتجاه جذب مزيد من الاستثمارات، عن طريق عمل تسهيلات وإصلاحات تشريعية بدأتها الحكومة منذ عام 2016، فضلا على ما تم إنفاقه على تحسين جودة البنية الأساسية لجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، ولعل من أهمها إطلاق وثيقة ملكية الدولة، والتي سعت من خلالها لطمأنة المستثمر على القطاعات المتاحة للاستثمار وتتخارج منها الدولة في مختلف القطاعات.
     ويظل القطاع الصناعي واحدًا من أهم القطاعات التي تهتم الحكومة بدعمها وجذب المستثمرين الأجانب للاستثمار فيها. فلا يخفى على أحد أهمية هذا القطاع في توفير فرص عمل أكثر من القطاعات الأخرى، فضلا على أن مخرجاته توفر عملات صعبة كثيرة يتم إنفاقها على استيراد منتجات صناعية تسعى الدولة اليوم لتوطينها. ويبقى على الحكومة أن تبذل مزيدًا من الجهد في المرحلة المقبلة لجذب مزيد من الاستثمارات وذلك- فيما يحدده المتخصصون- عن طريق الاستمرار في  تسهيل الإجراءات التنظيمية. 
    ولكن علينا في ذات الوقت أن نقر بما حققته الحكومة من إيجابيات تحسب لها رغم صعوبة الأوضاع، فقد تراجعت معدلات البطالة بنسبة واحد من عشرة في المائة خلال الربع الأول من العام الحالي. فضلًا على طرحها فكرة جاذبة للمستثمر بتوفير الرخصة الذهبية لمشروعات استثمارية في قطاعات اللوجستيات، والطاقة الخضراء. ينبغي إذن ألا نبالغ في تصدير الطاقة السلبية، بل العكس هو الواجب تمامًا، إذ إن تصدير السلبيات بصورة دائمة ليس فقط أمرا محبطا لأولئك الذين يعملون بكل اجتهاد لخروج البلد من كبوته الاقتصادية، لكنه يعطي كذلك رسائل سلبية للخارج، ويحرم البلد من استثمارات أجنبية ومحلية تفكر في ضخ مدخراتها في السوق المصرية. والمنطقي في هذه الحالة أن يخاف صاحبها ويتراجع عن الإقدام على الاستثمار في مصر حين تطارده مثل تلك الأخبار السلبية، كما أن جهدا مضاعفا ينبغي بذله من الدولة لجذب مزيد من الاستثمارات، وخاصة في مجال الصناعة؛ لأنها توفر فرص عمل كثيرة كما ذكرنا وتكفينا تبعات إنفاق حصيلة دولارية كبيرة غير متوفرة حاليًا بسهولة. 
    وخلاصة القول، إن تجربتنا الطويلة مع الاستثمار الأجنبي تؤكد المثل القائل: ما حكّ جلدك مثل ظفرك، فتولّ أنت جميع أمرك. نرحب نعم وبشدة برأس المال الأجنبي ونريده ونشجعه، ونوفر له فرص النجاح، ونيسر عليه الإجراءات الروتينية التي قد تضطره للتراجع عن فكرة الاستثمار لدينا. وعلى الرغم من هذا ينبغي أن نقدم مزيدًا من التسهيلات للمستثمر الوطني، سواء كان رجل أعمال أو شركة أو مؤسسة أو بنكًا، فرأس المال الوطني لن يتخلى عن دعم الدولة ويقرر الانسحاب من السوق حين تدور دائرة السوق عليه وعلى استثماراته.  
     رحم الله طلعت باشا حرب حين قاد عجلة الاقتصاد الوطني برؤية وطنية فأسس كيانات اقتصادية عملاقة في قطاعات هامة لا يزال بعضها قائما وفي الخدمة حتى اليوم، وهي في معظمها مشروعات طويلة الأجل أنشئت على مبدأ الاستمرار والاستقرار. والملاحظ أن معظم ما أنجزه الرجل كان في مجال الاستثمار الصناعي وفي قطاعات مهمة للغاية، وأكملت الدولة المضي في ذات التوجه بعد ثورة يوليو. ومبلغ علمي وبمتابعتي افتتاحات المشروعات الجديدة يمكنني الاطمئنان أن الدولة تسير قُدما في ذات الطريق بثقة تبعث على الاطمئنان وتشجع المزيد من المستثمرين على ضخ رءوس أموالهم بسخاء.