رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى مواجهة الخديعة الإسرائيلية

مما لا شك فيه أن رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسى، منذ اليوم الأول، الذى بدأت فيه إسرائيل الرد على هجمات المقاومة الفلسطينية فى السابع من شهر أكتوبر الماضى كانت رؤية صائبة وواعية تمامًا للمخطط الإسرائيلى، الذى كانت تهدف إليه، والذى استغلت فيه ما حدث؛ لتقنع العالم، خاصة الدول الداعمة لها وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بضرورة العمل على تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة أو البحث لهم عن وطن بديل يستوعبهم، وأن أقرب دولتين لهذا القطاع من الممكن أن يتم تهجيرهم إليهما هما مصر والأردن.. وأن هذا هو السبيل الوحيد لإقرار السلام فى المنطقة، وبدء العمل على إقامة علاقات ودية ودبلوماسية، وتطبيع كامل مع دول المنطقة العربية، خاصة أنها قد شرعت بالفعل فى تحقيق ذلك مع بعض تلك الدول، وكانت قد بدأت فى السعى لتحقيقهما مع دول أخرى من خلال اتصالات مباشرة ومعلنة.
كان الموقف المصرى، وأيضًا الأردنى واضحًا وحاسمًا، منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلى، حيث اقترن العمل العسكرى والمجازر الوحشية، التى تعرض لها الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة بدعوة أهالى القطاع إلى النزوح إلى المنطقة الجنوبية، وهى المنطقة المتأخمة للحدود المصرية مستغلين فى ذلك محاولة الفلسطينيين المدنيين- العزل من السلاح- العثور على ملجأ لهم هروبًا من القصف الوحشى المستمر بلا هوادة، أو تمييز بين من هو مدنى ومن هو من عناصر المقاومة.
جاءت تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسى والعاهل الأردنى الملك عبد الله الثانى؛ لتؤكد أنه لا قبول لفكرة التهجير؛ لإنها فى الأساس تهدف إلى قتل القضية الفلسطينية وتصفيتها، وهو ما قد يترتب عليه تدمير السلام فى المنطقة بالكامل، وذلك لأن شواهد التاريخ تشير إلى حقيقة تلك الدعوة الإسرائيلية الخادعة، وذلك لأنه عندما يضطر الفلسطينيون من مغادرة أراضيهم لن يسمح لهم بالعودة مرة أخرى إليها.. ومن هنا فإن فكرة التهجير، حتى ولو كانت الدعوة إليها أن تكون بصفة مؤقتة لحين القضاء على عناصر المقاومة من الفصائل الفلسطينية، هى حيلة مكشوفة، نجحت مصر والأردن فى كشفها ورفضها وإعلان أسباب رفضهما لها.
ولعل وجود تلك الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتشددة، التى تحكم إسرائيل حاليًا، والتى تنادى بضرورة إبادة الفلسطينيين هى التى أدت إلى زيادة المخاوف العربية من فكرة التهجير وعدم السماح بعودة الفلسطينين إلى ديارهم بعد هدوء الأوضاع فى قطاع غزة.. وهو ما أشار إليه الرئيس عبد الفتاح السيسى صراحة، عندما قال إن النزوح الجماعى قد يؤدى إلى خطر جلب المتشددين إلى سيناء، حيث قد يشنون هجمات منها على إسرائيل؛ مما يعرض معاهدة السلام الموقعة بين البلدين منذ 40 عامًا للخطر.
ومنذ أن أعلن الرئيس عن موقفه تجاه ما يحدث فى قطاع غزة وتمسكه بضرورة إدخال المساعدات الإنسانية والعلاجية إلى القطاع مقابل السماح بخروج الأجانب العالقين هناك من خلال معبر رفح.. وكذلك كشفه المخطط الإسرائيلى، الذى كان مدعومًا من الولايات المتحدة الأمريكية، وطلب أمام العالم- فى مؤتمره الصحفى مع المستشار الألمانى عند زيارته إلى مصر- أنه إذا كان الهدف من التهجير هو حماية المدنيين الفلسطينيين من الضربات العسكرية، فليكن تهجيرهم إلى صحراء النقب، وهذا هو الطبيعى والأقرب إلى الموضوعية إذا كانت هناك مصداقية للادعاءات الإسرائيلية.. منذ ذلك الحين وبعد تلك التصريحات رأينا تغييرات كبيرة فى مواقف العديد من الدول، بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية وحتى فى الداخل الإسرائيلى بشكل عام، وبصفة خاصة أهالى المحتجزين، الذين يتظاهرون يوميًا مطالبين رئيس الوزراء بوضع حد لما يحدث، خاصة مع اتساع دائرة الخوف بينهم نتيجة الضربات التى توجهها فصائل المقاومة الفلسطينية إلى الداخل الإسرائيلى يوميًا.. بالإضافة إلى زيادة أعداد القتلى من الأجانب والرهائن الذين سقطوا حتى الآن نتيجة إصرار إسرائيل على توسيع دائرة الحرب فى محاولة لتغطية فشلهم فى الاقتحام البرى لقطاع غزة حتى الآن.
نجحت مصر إذن فى تحريك الرأى العام العالمى، حيث أدى ذلك إلى تزايد الدعوات إلى وقف إطلاق النار فى غزة.. كما قام عدد 18 نائبًا فى الكونجرس الأمريكى بالتوقيع على مشروع قرار بوقف إطلاق النار.. وعلى الرغم من عدم الموافقة عليه، إلا أن ذلك كشف عن وجود انقسام داخل المجتمع الأمريكى، وصل إلى أروقة الحزب الديمقراطى الحاكم نفسه.. وهذا أيضًا ما حدث فى إنجلترا، التى يصر رئيس وزرائها ريشى سوناك على استمرار دعم إسرائيل فى حين ارتفعت حدة المعارضة له وعلا صوت إدانه قتل المدنيين، سواء داخل حزب المحافظين الحاكم أو حزب العمال المعارض.
حسمت مصر رفض فكرة التصفية والتهجير، عندما أعلنت أن سيناء خط أحمر، وحذرت من اتساع الصراع، وتمسكت بأمنها القومى، ودعمت ذلك بالإعلان عن امتلاكها قوة ردع شاملة قادرة على الحماية والردع وليس للتهديد أو العدوان، إلا أن ذلك يأتى متوازيًا ومتلازمًا مع سعيها الدائم والمستمر لإيجاد حل دائم وعادل للشعب الفلسطينى لإقامة دولته المستقلة.
كل ذلك دفع الحكومة الأمريكية إلى تغيير لغة خطابها مؤخرًا والإعلان عن التزام الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل مع شركائها لوضع الشروط المناسبة من أجل سلام مستدام فى الشرق الأوسط يشمل تأسيس دولة فلسطينية تحقق تطلعات الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية، وهو أمر لم يكن واردًا فى الخطاب الأمريكى من قبل، وهو ما يشير إلى أن هناك إعادة حسابات أمريكية مرة أخرى فى المنطقة؛ حفاظًا على مصالحها السياسية والاقتصادية وأيضًا الأمنية.. وهنا نشير إلى تلك الهجمات التى بدأت القوات الأمريكية تتعرض لها فى كل من العراق واليمن.
وعود إلى بدء فإن الموقف المصرى الكاشف للمخطط الإسرائيلى، الهادف الى تهجير الشعب الفلسطينى من المؤكد أنه استند على ذلك التاريخ الأسود لإسرائيل فى هذا الصدد، عندما طردت نحو 700 ألف فلسطينى فى أعقاب حرب 1948 وحوالى 300 ألف فلسطينى بعد حرب 1967، حيث رفضت عودتهم جميعًا بعد انتهاء تلك الحروب، بحجة أن ذلك سوف يهدد الأغلبية اليهودية فى البلاد.. ومن هنا فإنه لا يوجد أى ضمانات لعودة من تنادى إسرائيل بتهجيرهم لحين استقرار الأوضاع فى قطاع غزة والضفة الغربية ولا تريد مصر والأردن أن يعيد التاريخ نفسه، وأن ينتهى الأمر بعدد كبير من اللاجئين من غزة إلى البقاء إلى الأبد خارج ديارهم ووطنهم الذى ضحوا من أجله بالغالى والنفيس.. وهنا من الممكن أن تقوم إسرائيل بعمل تغييرات ديموغرافية دائمة يترتب عليها تغيير ملامح قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وهو الأمر الذى سوف يؤدى إلى تدمير لمطالب الفلسطينيين المشروعة، عندما لا يجدون وطنًا يعودون إليه.
إن تكرار تحذير الرئيس عبد الفتاح السيسى من أن النزوح الجماعى من غزة يهدف إلى القضاء على القضية الفلسطينية، وأن ذلك سوف يؤدى إلى زعزعة الاستقرار والسلام فى المنطقة، ويهدد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل كان له الأثر الأكبر فى وأد تلك المحاولات الإسرائيلية فى مهدها، وفى كشف مخططها الشيطانى لتحقيق هذا الهدف.
وتحيا مصر.