رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قمر سكورسيزى.. وثيقة سينمائية على جرائم لا تموت

لأنه مارتن سكورسيزى، فهو لا يخشى أحدًا، ولا تقف فى وجهه معوقات شركات الإنتاج والتوزيع فى «هوليوود»، ولأنه يعرف ما فى حوزته، فهو لا يتردد فى أن ينتج فيلمه بنفسه، وبمشاركة من نجمه المفضل ليوناردو دى كابريو، ليقدما معًا تحفة سينمائية مهمة، يحكيان من خلالها قصة الجرائم التى ارتكبها اليهود ضد هنود «الأوساج» لقتلهم والاستيلاء على أراضيهم التى تفجرت تحتها حقول النفط بولاية أوكلاهوما فى عشرينيات القرن الماضى..

ولأنه مارتن سكورسيزى لم يترك لقطة فى فيلمه «killers of the flower moon»، «قتلة قمر الزهرة»، دون أن يؤكد من خلالها أن الأحداث التى يصورها حقيقية تمامًا، مستمرة ومتكررة، وإن اختلف الزمان والمكان، وتطورت الوسائل والوسائط، وادّعى العالم التحضر والانتصار للإنسانية والرغبة فى الحياة بسلام.. فما زال قتلة عشرينيات القرن العشرين هم أنفسهم قتلة عشرينيات القرن الحادى والعشرين، بذات الأطماع، وبذات الوقاحة وادعاء الود والإنسانية.. والإفلات من العقاب.

منذ اللقطات الأولى يقدم سكورسيزى لفيلمه كعمل توثيقى، لا يقبل التعامل معه باعتباره مجرد شريطَ خيالٍ سينمائى للمتعة العابرة، فهو لا يروى قصة درامية من خيال مؤلفٍ، أو سيناريو لا أصل له من الواقع.. وهو لا يقبل التعامل معه باعتباره مجرد عمل «ترفيهى» لقتل الوقت، وإنفاق بعض النقود الزائدة عن حاجة حائزيها، بل وثيقة درامية، دامية، ومعذبة عمّا تعرضت له واحدة من أمم السكان الأمريكيين الأصليين، على يد عصابة «عائلية» من «البيض»، يتزعمها ويليام هال، «ملك التلال» اليهودى، للاستيلاء على أراضيهم، وثرواتهم، وقتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم، مستخدمًا كل ما أتيح له من وسائط وإمكانات، من اللقطات السينمائية الأرشيفية لما كانت تقدمه دور العرض السينمائية وقتها، وحتى الوثائق المكتوبة، والتواريخ المعتمدة، والشهادات الحية.. وأعداد الضحايا وأسمائهم، وتواريخ التخلص منهم «دون تحقيقات».

ولأنه روبرت دى نيرو، فلم يفوت الفرصة التى جاءته على طبق ذهبى لمنافسة صديقه التاريخى آل باتشينو، وتقديم النسخة الأمريكية من شخصية شايلوك «تاجر البندقية»، التى سبقه آل إلى تقديمها للسينما والمسرح عن رائعة شكسبير الشهيرة، فاستثمر كل إمكاناته وتاريخه لتقديم شخصية اليهودى المتآمر الباحث عن المال بكل ما لديه من وسائل، ولو بتزويج ابن أخيه العائد من الحرب «إرنست»، ليوناردو دى كابريو، من واحدة من بنات قبائل «الأوساج» الأصليين، ثم خداعه ليضع لها جرعات من السم فى حقنة «الإنسولين» لقتلها ببطء ودون رحمة، أو أى إحساس بالذنب.. تراه يتقرب من زعماء أمة «الأوساج» وأفرادها، يتحدث لغتهم، يفرح ويرقص فى أفراحهم، ويبكى منتحبًا فى أحزانهم، وعندما تزداد وتيرة قتل أفراد القبيلة، وحوادث الموت المفاجئ لبناتهم ونسائهم، يعلن وسط اجتماع لقادتهم عن تبرعه بجائزة كبيرة ومغرية لمن يتعرف على هؤلاء القتلة المجهولين، والإرشاد عنهم، فيما حقيقة الأمر أنه هو وابنا أخيه من يقفون وراء كل تلك الحوادث، هم من يدبرون لها، يستأجرون من ينفذها، ويوفرون لهم الأدوات والغطاء اللازم، وهم أيضًا من يدبرون الفخاخ للإيقاع بهؤلاء القتلة المستأجرين.

ولأنه سكورسيزى وليوناردو دى كابريو وروبرت دى نيرو، لم يتمكن المتحكمون فى مواقع التقييمات السينمائية من الحط أو التقليل منه، فلجأوا إلى سلوكيات مضحكة، منها مثلًا تعليقات كثيرة حول طول الفيلم «ثلاث ساعات وست وعشرون دقيقة»، ومنها ما كتبته إدارة موقع «آى إم دى بى» من أن الفيلم يدور فى العشرينيات، ويظهر فيه أحد زعماء «الأوساج» وهو يقول إن ما حدث لهم «إبادة جماعية»، «genocide»، وإن الكلمة لم تكن معروفة وقتها، وتمت صياغتها فى ١٩٤٤ عند وصف «الهولوكوست»، ومنها ما كتبته بشأن «المطرحة» التى يضرب بها ويليام هال ابن أخيه إرنست على مؤخرته، بعد خطئه فى إحدى الجرائم، والادعاء بأنها بانت مكسورة، حتى إن دى نيرو حاول إخفاءها وراء ظهره، فيما يبدو بمنتهى الوضوح غضب العم، ونقمته من تهاون ابن أخيه، وتعمده أن يضربه بقسوة وعنف بالغين، حتى لا تتكرر مثل هذه الأخطاء التى يمكنها أن تهدد مخططه للاستيلاء على أموال زوجته وعائلتها.

ولأنه ليوناردو دى كابريو، رفض الامتثال لترشيح سكورسيزى له لتمثيل دور المحقق الفيدرالى، وأصر على دور ابن الأخ «إرنست»، المفعم بالمشاعر المتضاربة والمتداخلة، بالانقسامات والتحولات المفاجئة، الجشع للمال.. المحب لزوجته، صافية الروح، لطيفة المعشر، والخائف من عمه، والمتشكك فى نواياه، والمنصاع لكل ما يمليه عليه، المتردد فيما ينبغى عليه أن يقوله وما لا يجب عليه أن يكشف عنه..

فى المرة الأولى التى دعته فيها «مولى» لدخول المنزل وتناول العشاء، تسأله عن ديانته فيقول إنه كاثوليكى، وعندما تعلق بأنه لا يذهب إلى الكنيسة، يتحجج بأنه كان بعيدًا.. فى المشهد التالى نراه يجلس داخل الكنيسة بالقرب منها حتى تراه، لكنه بالطبع يخطئ فى التصرف.. وتلاحظ خطأه، لكنها لا تغضب من كذبته، بل تبتسم ابتسامة فاتنة، هى مزيج من خبث من يدرك الفارق بين اليهودى والكاثوليكى، وفتنة من ترى الرجل الذى تريده يدّعى ديانة غير ديانته لمجرد إرضائها، وهى ذات الابتسامة التى ارتسمت على وجهها عندما بدأ فى مغازلتها، فراحت تردد اسمه الأوساجى «ذئب البرارى»، وهى تقول له: «لكن الذئب يريد المال»، تقول إن «الأوساج» لا يعنيهم المال، لم يطلبوه ولم يطلبوا الحياة المرفهة، كل ما كانوا يطلبونه هو الحياة.. فقط لا غير.

هنا تبدو مولى، «ليلى جلادستون»، هى وحدها من تعرف معنى المحبة، تقدمها للجميع بغير شروط، تقدمها لمن يضع لها السم فى الدواء، ومن يوصى بوضعه، تغفر وتسامح وتصفو، كأن شيئًا لم يكن، فيما يسير القتلة فى طريق الإبادة دون أدنى شعور بالذنب، أو تأنيب من ضمير، ولتبقى هى وحدها من يخفف «سينمائيًا» من بشاعة الجرائم التى يصورها الفيلم، والذى أظن أنه لن يعجب لجان الجوائز حول العالم لأسباب لا علاقة لها بالفن.. إلا ما ندر، وسوف يعجب لجانًا أخرى لذات الأسباب.. لكنه يظل فى كل الأحوال كشريط سينمائى ممتع، وكاشف، ومعذب، يحكى حقيقة ما حدث من جرائم ضد «الأوساج» فى عشرينيات القرن العشرين، وما يحدث الآن فى عشرينيات القرن الحادى والعشرين.