رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صنع فى بيت "جدتى"

مصر دولة صناعية منذ قديم الأزل، الإنجليزي "ألفريد لوكاس"، الباحث في الكيمياء التحليلية وعالم الآثار وصاحب كتاب "المواد والصناعات عند قدماء المصريين"، ترجمة دكتور زكي إسكندر، وإصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب- سلّط "لوكاس" الضوء في دراسته وأبحاثه على الأدوات والمواد المستخدمة من قبل الفراعنة في صناعات مختلفة اشتهر بها القدماء المصريون، منها صناعة المنتجات الحيوانية، وصناعة الزجاج والفلزات والسبائك والتحنيط واستخراج الزيوت ومواد التصوير والنقش على جدران المعابد وصناعة الفخار والأحجار الكريمة، وغيرها من الصناعات، وصولا إلى بناء الأهرامات التي يقف العلم عاجزا أمامها رغم ما وصل إليه من تكنولوجيا حديثة، إنها هندسة المقابر التي أعدها ملوك مصر القديمة لحياتهم الأخرى.. 

الصناعات المصرية القديمة لم تنتهِ مع مرور الزمن، يعود بي "لوكاس" بعجلة الزمن وذكريات الطفولة، قربي من "جدتي" أيام عشتها في "الواحة".. أجتر من الذكريات حين كنت أتابع جدتي وهي تصنع جل الأشياء التي تساعدها على الحياة، كل شيء "صنع في بيت جدتي"، كانت تلك السيدة الممشوقة القوام الممتلئة بالصحة والحيوية بيتها أشبه بـ"ورشة" عمل في الصباح، تستدعي جيرانها لإعداد كل ما تحتاجه نساء "الواحة" من صناعة، مثل الحصير اليدوي المصنوع من سعف النخيل، حيث تقوم بفرز "السعف".. هذا سعف أبيض يضاف له صبغات ملونة تصنع منه الأطباق، وهذا نوع آخر من السعف يصنع منه الحصير، وهذا لصناعة "المقاطف" بديل الشنط وحافظات للأغراض، وفي يوم آخر تستدعي فيه نساء الوادي أو الحي ويخصص لحياكة الملابس وإعداد الحلي التي تتزين بها الفتيات والنساء، كنت أجلس إلى جوارهن وألحظ كيف يكون اختيارهن لتناسق الألوان، أما في موسم التمور فأشعر بأن بيت "جدتي" تحول إلى مصنع لتجفيف التمور مختلف الألوان والأكل، على مدار شهرين تكون قد انتهت من تجفيف وفرز وتعبئة ما لديها من تمور في عبوات مختلفة الشكل والأحجام. 

في بيت جدتي لم ألحظ أن لديها صندوقا للمخلفات، فكل الأشياء قابلة للتدوير وإعادة إنتاجها في شكل جديد، كانت الملابس البالية يتم تحويلها إلى خيوط وشرائط على شكل كرة يتم إرسالها إلى إحدى السيدات التى تتقن عمل النسيج على آلة يدوية تعرف بـ"النول" تحولها إلى مفروشات.. كانت "جدتي" تصنع لي لعبتي "عروسة" من القماش، رغم أني أمتلك عروسة من البلاستك تقترب من نصف حجمي تتحدث وتغني بالإنجليزية بكبسة زر عليها، إلا أنني أحب عروسة القماش. سألت جدتي- ببراءة الأطفال- لماذا لا تستعينين بآخرين للقيام بكل هذه المهام خارج البيت؟، أجابتني: "عار وعيب علينا أن يصنع لنا غيرنا ما يمكن أن نقوم به".. رحلت جدتي وما زلت أتذكر كلماتها "يا له من عيب وعار".. كبرت وعرفت أن دول العالم الصناعية الكبرى اعتمدت على مثل هذه الصناعات الصغيرة التي كنت أراها في "الواحة"، علمت أن حال الدنيا أجمع تساهم فيه الصناعات اليدوية الصغيرة والمتوسطة بنسبة تتجاوز 50% من اقتصاد الدول، إذ تعد المشروعات الصغيرة والمتوسطة إحدى ركائز الاقتصادات المعاصرة، حيث تسهم هذه المشاريع في تحقيق عدة ميزات اقتصادية، منها تخفيف حدة البطالة، زيادة النشاط الاقتصادي، تحسين القوة التنافسية وتطوير الصادرات. في نظرة سريعة على مساهمة هذه المشروعات في دولة عظمى مثل الصين نجد أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة تم اعتمادها في الصين كسياسة وطنية لمحاربة البطالة، خاصة في المناطق الريفية، وقدمت الحكومة الصينية دعما كبيرا لأصحاب هذه المشاريع التي تحولت فيما بعد إلى أهم الركائز الأساسية للاقتصاد الصيني المعاصر.. على هذا النهج وعلى خطى الصين انطلقت مبادرة "ابدأ" الوطنية لتطوير الصناعة المصرية ومشروعاتها لتأهيل الشباب للقيادة، وربطها مع مبادرة "حياة كريمة" بمشروع متكامل للصناعة وتنمية العنصر البشري وتوطين التنمية، وذلك بدعم من رئيس الجمهورية.. كل هذا أمر طيب ولا سيما أن المبادرات التي يساهم فيها المجتمع المدني هي الطريق الصحيح لدعم الاقتصاد المصري في ظل التحديات التي تواجه مشروعات التنمية في مصر. لكن.. علينا أن نركز على بعض الأمور لنجاح مثل هذه المبادرات الجادة، وإن كنت أرى أن مؤسسات الدولة بما لديها من أدوات تعمل جاهدة على نجاح هذه المبادرات، هنا أفترض حسن النوايا، وليس أمامي سوى فرض حسن النوايا، فالمشروعات التنموية والصناعات تصل إلى كل بيت وكل مصري إما مشارك في هذه الصناعات بشكل مباشر أو مستهلك للمنتج النهائي.. توزيع الأدوار على الجميع، كل في موقعه، سر نجاح هذه المشروعات.. نبدأ أولاً بالدور الإعلامي، كل وسائل الإعلام عليها رعاية هذه المشروعات في كل البرامج والموضوعات الصحفية دون الدخول في تفاصيل عمل الإعلام، كل متخصص يعرف دوره المهني في دعم هذه المشروعات.. ثانيًا: يأتي دور الحكومة، هي أيضا تعرف أين تكون الدراسات الداعمة، وكيف تقدم حزم المساعدات والقرارات التي تقدم التسهيلات دون التعقيدات والبيروقراطية "خاصة مدام عفاف اللي في الدور التاني وطلباتها التي لا تنتهي" نريد مدام عفاف ذات الشباك الواحد.. ثالثًا: دور الشباب هو الصانع والعقل المفكر، عليك عزيزي الشاب أن تجتهد وأن تبدع.. عليك أن تجعل عقلك هو مصنعك، بمعنى أن يصنع عقلك الفكرة التي تصبو إليها وتناسب جهدك وإمكاناتك.. رابعًا: وزير التعليم ملقى على عاتقه مهمة تطوير التعليم الفني في مصر، لدينا تخصصات جديدة غير مستغلة وليس لها موقع من التعليم الفني، على سبيل المثال لا يوجد لدينا تخصص حفر مناجم، خاصة أن مصر لديها مناجم مختلفة العناصر، كما لا توجد معاهد حفر بترول، نعم لدينا مؤهلات عليا في الجيولوجيا والتعدين، لكن متخصص فني لا أعتقد أن هناك مثل هذه التخصصات.
خامسًا: على جمعيات رجال الأعمال والمؤسسات الداعمة للمشروعات الصغيرة أن تقدم دورات تدريبية في مجال الأعمال وتقدم منحا داخل مؤسساتها الاقتصادية يستفيد منها الشباب.

في الختام نستدعي المثل الذي يقول: "لا تعطيني سمكة ولكن علمنى كيف اصطاد السمك".. عاشت الشعوب التي اعتمدت على الكد والتعب والتفكير والعمل.. عاشت الشعوب المنتجة التي تأكل من صناعة يدها.. أما الشعوب المستهلكة والمستوردة فلا تدوم طويلا.. ولو أن "جدتي" عاشت يومنا هذا وسمعت عن توطين الصناعة والتكنولوجيا لسعت جاهدة في التعلم والعلم والمعرفة.. إن العالم مشرف على حياة جديدة تبدأ 2050 الجميع يستعد لها من الآن، منهج الحياة الجديدة ليس بالإحلال والتبديل بل بالتغيير الجذري والاتجاه نحو التكنولوجيا الحديثة، لغة العصر وكل العصور المقبلة.