رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مع أم كلثوم ذلك أفضل كثيرًا

روى الكاتب محمود عوض فى كتابه «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد» قائلًا: «فى فترة النكسة سألت أم كلثوم: كيف حال بلادنا؟ 

■ أم كلثوم: تستعد.. شبابنا يحارب.. أرضنا ترويها الدماء؟ 

واسألها: ماذا تقرئين الآن؟

■ قصيدة شعر لنزار القبانى.. يقول أحد أبياتها: إلى فلسطين طريق واحد يمر من فوهة البندقية».

هنا تقول أم كلثوم لمحمود عوض: إن القضية، قضية أرض فلسطين لم تكن أرضًا خالية من السكان.. فلسطين كانت شعبًا يملك الأرض، والشعب يجب أن يعود، ليست المسألة إحسانًا يقدمه العالم إلى اللاجئين، إن فدائيينا كسبوا لنا فى سنة ما لم تكسبه أصواتنا فى ٢٠ سنة.

ويستطرد محمود عوض سائلًا أم كلثوم: ما الذى تظنين أننا نحتاج إليه الآن؟ فتجيب فوًرا: 

■ رصاص، وعمل.. فيستدرك: هل هذا كل شىء؟ فتسأله أم كلثوم مستنكرة: وهل نحتاج لشىء آخر؟ 

حوار كاشف يظهر رأى أم كلثوم فى القضية الفلسطينية ووعيها وعمق تفكيرها، هكذا كانت أم كلثوم، الفنانة الأهم فى الوطن العربى، على مدار قرنين تمتلك تلك الرؤية الثاقبة، وتدرك مسئوليتها والأولويات المنوطة بتلك المسئوليات، كفنانة ومواطنة، وهى حين تقول العمل وتقرنه بالرصاص فكأنما تقول لا الحرب وحدها ولا العمل وحده، ولكن يجب أن يقترنا الاثنان فى منظومة متصلة ومكملة لبعضها.

وقد بدأت أم كلثوم بنفسها، فقدمت المواطنة على الفنانة، وظلت تعمل وتجوب مصر ثم الدول العربية ثم العالم من هونج كونج إلى كندا لتغنى أعظم وأجمل أغانيها وتجمع أموالًا للمجهود الحربى ولإزالة آثار العدوان، حتى بلغ عائد حفلاتها التى تبرعت بها حينها ٢ مليون جنيه! «كم يساوى هذا الرقم فى عصرنا الحالى؟»، لم توقف غناءها ولم تخجل من كلمات الحب ولم تتحرج أن ترسم البهجة والسعادة على الوجوه وفى القلوب فى لحظة كتلك، بل غنت «أغدًا ألقاك» و«أمل حياتى» و«إنت عمرى».

ويحكى أنه فى ١٩٤٩ بينما كانت تحيى أم كلثوم حفلًا استوقفها ضابط وقدم لها خطابًا مغلقًا، فتساءلت: ماذا يمكن أن يكون فى هذا الخطاب؟ وحين فتحته وجدت فيه ورقة مكتوبًا فيها: رجاء من جنود الفرقة العسكرية التى حاصرها الإسرائيليون فى الفالوجة:

«نريد أن نسمع منك فى حفل الليلة المذاع فى الراديو أغنية (غلبت أصالح فى روحى)»، لم يطلبوا غنوة «خلى السلاح صاحى»، أو «مصر التى فى خاطرى وفى دمى»، لم يطلبوا أغنية وطنية على حبهم وإخلاصهم لوطنهم الذى لا يحتاج لبرهان، بل طلبوا وترجوا أم كلثوم أن تغنى لهم «غلبت أصالح فى روحى»، وقد قطعت أم كلثوم يومها وصلتها لتغنى لهم الأغنية التى طلبوها كما لم تغنها من قبل، وفقًا لرواية الصحفى الكبير محمود عوض.

إذن فالعمل الذى تقصده أم كلثوم لم يكن الزراعة والصناعة فحسب؟ بل الفن أيضًا عمل، الفن ليس رفاهية كما يظن بعض الجمهور بل بعض الفنانين والمثقفين أيضًا، لقد كان الفن لدى أم كلثوم هو فعل مقدس، عمل مبجل وهو رسالة إنسانية، لا تخل بجدية المعارك ولا تبتذل الأحزان ولا تؤطر بالحرج صوان العزاء، فالحزن مقيم فى أرواحنا لكن أرواحنا أيضًا فى حاجة للحب، فى حاجة للفن.. الفن هو عصارة الروح والأرواح الجافة هى أرواح مهزومة، فنحن فى حاجة للأرواح المتجلية اليقظة، نحن فى حاجة للفن، للغناء، للمسرح، حتى للضحك. الشعوب العظيمة قاومت الحروب بالتشبث بالحياة، قاومت البكاء بالغناء، حين زرت رام الله منذ عدة سنوات عاينت نقشًا متكررًا على الجدران فى كل شارع تقريبًا هو كلمات محمود درويش: ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلًا. 

ونحن أيضًا نحب الحياة وسنظل نحب الحياة ونحب المسرح ونحب السينما ونحب الكرة ونحب فلسطين ونحب وطننا العظيم ونفخر به، ولن ينتقص حب من حب، فعلى عكس ما قد يظن البعض إن الجيوش المنتصرة هى التى يكون دافعها هو الحب: حب الوطن، حب الأهل، حب الحق، لا كراهية العدو فحسب.