رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأستاذ الفارس.. والفارس المعلم

عن سيرة الفتى طه حسين

(مشهد خارجى- عموم مصر)

“ويقول رجل لابنه الشاب، وكلاهما يبكيان: "أنت يا بني تبكي طه حسين لأنك تعلمت منه وقرأت له وسمعت أحاديثه في الإذاعة، وأنا يا بني لم أتعلم من طه حسين، ولم أقرأ كتبه، ولم أسمعه يتحدث إلا نادرًا ومصادفة، ولكني أبكيه يا بني لأنه هو الذي مكنني- منذ ثلاثة وعشرين عامًا- من تعليمك، وهذا أنت قد حققت لنفسك ولأسرتك من الثقافة والكرامة والخير ما حققت".

(1)

"جئتُ وعاينت وانتصرت" هذه رسالة يوليوس قيصر- بعد انتصاره- إلى مجلس شيوخه الذي أرسل له عشرات الرسائل؛ لأن الأعداء يتقدمون إلى روما في أثناء وجود قيصر في قارة أخرى، وقتها لم يسع هذا المجلس إلا أن يخرج مع الشعب لاستقبال المنتصر، وسط موكب مهيب درجة أن أحد المقربين من قيصر مال على أذنه هامسًا: "تذكر فإنك بشر".

قريبٌ من هذا الاستقبال الأسطوري، كان استقبال الدكتور طه حسين في الجامعة المصرية في 1919 بعد حصوله من فرنسا على الدكتوراه في "ابن خلدون"، وعلى دبلوم الدراسات العليا في اللغة اللاتينية.

كم من المصريين عبروا البحر المتوسط وحصلوا على شهادات كبرى ثم عادوا، كم من الأساتذة الجامعيين؟ لماذا قرر طه حسين وهو أول حاصل على الدكتوراه من الجامعة المصرية 1914.. أن يعبر ويحارب؟ 

في عام 1973 تناسى حسين مرضه الثقيل وسأل زوج ابنته سؤالًا واحدًا عن عدد خريجي الجامعة الذين انضموا إلى جيش مصر الذي يستعد لعبور النكسة، ولم يسلم جسده الروح إلا بعد أن اطمأنت مصر إلى أن أبناءها قد عبروا. 

(2)

المتابع لسيرته سيرى أن حياته كلها كانت عواصف شديدة، نتجت عن شيء واحد- ظاهرًا- هو طه حسين نفسه؛ فما الذي دفع الأزهريين إلى إيقافه أولًا، ثم إلى رفض منحه العالمية؟ أليس منهجه القائم على المخالفة؟ وما سبب الزوبعة التي قامت ضده حين حصل على الدكتوراه في مصر؟ أليس موضوعها الذي اختاره هو؟ 

هل كان طه حسين غير مُقدِّرٍ للنعم التي أتته أم أنه كان يسعى لتحقيق نفسه عبر المخالفة؟ هذا هو السؤال المركزي.

(3)

نظرت الجامعة المصرية إليه نظرة، ونظر هو إلى مصر نظرة أخرى، رأت فيه الجامعة ثمرتها الحلوة؛ فقد استطاعت، وهي غير المعترف بخريجيها، وهي ضعيفة الإمكانات أن تخرج أستاذًا يشار إليه بالبنان، لكن طه نظر إلى نفسه سائلًا: ما معنى أن تكون أستاذًا جامعيًّا في دولة قادت العالم لآلاف السنين، ثم سقطت في شراك الاحتلال والاستبداد قرونًا أخرى، رأى طه أن هذه هي اللحظة التي يجب أن يستدير فيها الزمان كهيئته الأولى.

الفتى عائد وزلزال ثورة 1919 يحرك العالم، وجامعته تثبت أقدامها، وشعبه ينتظم نشيد حريته؛ لذا فعليه أن يحمل مشعل النور - وسنرى أسرة رفاعة الطهطاوي وهي تكرمه؛ لأنه من أحيا مدرسة الألسن التي أسسها جدهم- والحق أنه حتى هذه النظرة نظرة تجزيئية لمنجز شامل.

(4)

ماذا فعل طه حسين؟ يبدأ أستاذًا للأدب اليوناني؛ فيبين أهمية أن نبدأ من هناك؛ لأنهم بدءوا من هنا، ولا إكمال بانقطاع، يزرع في نفوس طلابه الثقة والإصرار؛ فيدعهم يناقشونه ويخالفونه، يخرج من أسوار الجامعة ليصبح ما يدرسه مع باعة الصحف والكتب.

أما طلابه فهو كقائد الفرسان الذي يأمرهم بأن يثبوا على الخيل، ويحاربوا، وهو يشجعهم ويحميهم؛ فهو يشركهم  في البحث ويدفعهم إلى التجربة والاختلاف، ويطالبهم أن يقرءوا النصوص في لغتها الأصلية، بل أن يترجموها هم، ولا يتوقف الأمر عنده على الأدب، بل يتوقف عند الظواهر السياسية اللافتة كاستبداد "كريون"، بل يعبر إلى دراسة كتاب "نظام الأثينيين" درة أرسطوطاليس الذي يتحدث عن تطور نظام الحكم في أثينا، 

يسعى مع أساتذته ورفاقه لتحويل الجامعة المصرية إلى جامعة معترفٍ بها، وينجح مسعاهم وتصبح تابعة لوزارة المعارف، وينطلق متوسعًا فتكون جامعة الإسكندرية، وأسيوط، ولا يتوقف حتى بعد أن يسقط فاقد الوعي من الإجهاد في أحد نشاطاته.

يصر على أن يكون التعليم الثانوي مجانيًّا، وحين يتصدى له وزير المالية ومن حوله بحجة عدم كفاية الأموال يقول: "على وزير المعارف أن يطلب ما يُصلح وزارته، وعلى وزير المال أن يدبر المال"، وينتصر.

(5)

نفاذ البصيرة والحسم سمتان من سمات العميد؛ وهما مدخلان لفهم ما قام به؛ فنحن ننتناقل قوله: "التعليم كالماء والهواء" وهو قول جميل لكن علينا أن نكمل: الماء لا بد أن يكون صالحًا، والهواء يجب أن يكون نقيًّا، والتعليم يجب أن يكون سليمًا مؤديًا إلى ما نطمح إلى تحقيقه من نتائج" وما إن يتولى طه حسين وزارة التعليم حتى يعلن ضرورة أن يكون التعليم الثانوي مجانيًّا، وهنا يعارضه كثيرون، ويقف أعضاء مجلس النواب مع وزير المالية الذي يرى أن هذا مكلف فوق الطاقة؛ فيقول طه كلمته: "هذا قراري، وعلى وزير المال أن يدبر ما نحتاج إليه من مال".

(6)

لا يعرف كثيرون أن طه حسين هو أول رئيس لجامعة الإسكندرية، وأنه قبل هذا المنصب في أثناء الحرب العالمية الضروس، وأنه عمل لعامين متتالين دون انقطاع حتى وقفت الجامعة على قدميها؛ فيرسل تقرير موقفٍ إلى وزير المعارف، يبين فيه أثر افتتاح الجامعة المتمثل في تحويل الإسكندرية من مدينة عمل ومال إلى بيئة علمية ممتازة ستتسع أكثر وأكثر، وينسب نجاح الجامعة واستمرارها إلى أن: "هذه طبيعة الحياة للمعاهد العلمية الكبرى" ويدعو إلى أن يتحرك رجال الأعمال والثقافة السكندريين لدعم جامعتهم، يختمه بقوله: " لكنها منذ الآن لا تستطيع أن تواجه حياتها الخصبة المستقبلة إلا إذا فُرض لها من ينهض بأمرها ويواجه مشكلاتها الكبيرة والصغيرة مواجهة يومية متصلة، فأنا ألح في الإسراع باختيار مدير لها يقف وقته وجهده على تدبير أمرها لا يشغله عن ذلك شيء آخر، وألح بالطبع في أن يكون شخصًا غيري من رجال التعليم".

ولا يعرف الكثيرون أن شفيق متري حين اتصل به، يستشيره في إنشاء سلسلة كتب شعبية بأقلام عدد من الكتاب من كل أرجاء الوطن العربي ليقرأها العرب في كل البلاد، قال له: " لن يجمع كلمة العرب إلا نسيج فكري متجانس تنسج خيوطه أقلام كتَّابهم جميعًا" واقترح أن يكون اسم السلسلة: "اقرأ" أول كلمة أُنزلت من القرآن الكريم.

(7)

"إنه رجل جريء العقل، مفطور على المناجزة، والتحدي، فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي بين القديم والحديث، من دائرته الضيقة التي كان عليها، إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير" هذا رأي العقاد في طه حسين، والحق أنه لولا ما امتلكه العميد من صراحة وصلابة وعناد، لما استطاع تحقيق هذا المنجز الذي كلما مضت عليه السنون ازداد قيمةً؛ والذي اختصر لمن جاءوا بعده الطرق؛ فكيف تستطيع ثورة يوليو أن تجعل التعليم الجامعي مجانيًّا دون ما فعله الأستاذ؟ وكيف تمتلئ مصر بنور الجامعات لولا دور طه ورفاقه؟ وكيف يجرؤ أستاذ جامعي على ترجمة كتب الآخرين دون استئناسه بما فعل العميد؟ وكيف كنا سنرى الجامعة لو لم يفتح الأستاذ الأول مصراعي الاجتهاد العالمي ترجمة ومناقشة وبحثًا؟ هذا هو دور الأستاذ الفارس، والفارس المعلم.. طه حسين.

الحق، أن طه خاض معركة الحداثة في بدايات القرن العشرين نيابة عن أمة كاملة، حلم بأن تكون مصر جنة الله في أرضه، وحارب من أجل ذلك، ولنقرأ آخر ما ختم به كتابه مستقبل الثقافة في مصر- كتبه في مدينة مورزين الفرنسية 1973 -: "أرى شجرة الثقافة المصرية باسقة، قد ثبتت أصولها في أرض مصر، وارتفعت فروعها في سماء مصر، وامتدت أغصانها في كل وجه، فأظلت ما حول مصر من البلاد وحملت إلى أهلها ثمرات حلوة، فيها ذكاء للقلوب وغذاء للعقول وقوة للأرواح... فيتلون هذه الآية الكريمة...: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة – آية 25.

...

(مشهد خارجي – أحد خنادق سيناء)

في الثامن والعشرين من أكتوبر  1973، انتقل الأستاذ إلى الرفيق الأعلى، وتلاميذه على الجبهة يستعيدون بالعلم والإخلاص حرية بلادهم، وحين عرفوا كتب أحدهم "عبد الصبور منير" قصيدته إهداء لروح المعلم، ومنها: بين يدي والصدر/  تقول قطعة السلاح/ إن الذي علمها الكفاح/  يُستشهد اليوم هناك

رأى المقاتل أن "إن كل شيء في سماء الوطن الجميل، محمل بما منح حسين الجيل، من الأصالة والعزة والفكر». 

وفي كل مكان.. وفي كل زمان سيتردد صوت طه: جئت، وحاربت، ليعبر قومي بالعلم والحرية إلى نصرهم