رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التجسس على أمريكا!

استيقظت بالأمس ولدىّ رغبة ملحة فى أن أبحث فى موضوع هام وهو «التجسس الإسرائيلى على أمريكا».. إن البحث هنا أداة أساسية للعلم.. وهو يقى الإنسان من أن يكون جاهلًا، أو ساذجًا يتلاعب به الآخرون أو يبدلون له المعانى.. فيحولون الحق إلى باطل، والنشاط المهنى الناجح إلى فضيحة!.. إلى غير ذلك من المغالطات والأكاذيب.. لقد لفت نظرى وأنا أبحث فى هذا الملف الهام أن الدول كلها تبحث عن المعلومات أو عن حماية مصالحها أو عن بناء تحالفات تحمى حقوقها من خلال أجهزتها المختصة بذلك.. وأن هذا لا يعنى أى حالة عداء بين تلك الدول وبعضها البعض.. وعلاقة إسرائيل وأمريكا أكبر مثال على ذلك.. فالأرشيف الصحفى متخم بمقالات لأمريكيين يرصدون حالات التجسس الإسرائيلى على أمريكا من جانب، ويعترضون عليها من جانب، ويحذرون منها من جانب ثالث، ومع ذلك، فالجميع مستمرون فى مسارهم الطبيعى.. لأن هذه هى طبيعة الأمور.. إن الحالة النموذجية للتجسس الإسرائيلى على أمريكا هى حالة الجاسوس «جوناثان بولارد»، وهو محلل مخابرات أمريكى أصبح جاسوسًا لإسرائيل.. كان بولارد يهودى الديانة، ويعمل فى مخابرات البحرية الأمريكية.. سرّب لإسرائيل صورًا لمقر منظمة التحرير الفلسطينية فى تونس قبل أن يقوم الطيران الإسرائيلى بضربها وقتل عشرات المدنيين، من خلال عمله سرّب بولارد لإسرائيل معلومات هامة عن الجيوش العربية وقدراتها القتالية... إلخ، وعندما ألقى القبض عليه أقر بأنه مذنب وحكم عليه بالسجن مدى الحياة.. ورغم ذلك أنكرت إسرائيل علاقتها به لسنوات طويلة حتى اعترفت بالقضية فى ١٩٩٨ تمهيدًا لمنحه الجنسية الإسرائيلية بعد الإفراج عنه بعد ثلاثين عامًا قضاها فى سجون أمريكا.. وكانت المفارقة أن رئيس وزراء إسرائيل نفسه كان فى استقباله فى المطار.. من نافلة القول إن «بولارد» لم يكن الوحيد، ولكنه من تم ضبطه، وإن أمريكا أيضًا لها جواسيس أو عملاء فى إسرائيل وغيرها، وإن بريطانيا لها وروسيا لها وكل بلاد العالم لها عملاء لدى بعضها البعض، ومن أجل هذا توجد أجهزة المخابرات فى كل الدول الحديثة فى العالم.. إن من علامات التخلف الحقيقى أن تغيب بديهيات الأمور عن قطاع من الرأى العام يتم تضليله وتجهيله من جماعات متخلفة وعميلة وخائنة بالمعنى الحرفى للكلمة.. إن ملف التجسس الإسرائيلى على أمريكا لا يعنينى إلا كمجرد مثال على أن كل الدول تسعى لخدمة مصالحها وتجنيد عملاء لها وأن المسئولين عن هذا يقاس نجاحهم كلما نجحوا فى تجنيد عملاء أكثر نفوذًا وأهمية... فى ملف التجسس الإسرائيلى على أمريكا هناك أيضًا قضية «بن عامى قاديش»، وهو أيضًا مهندس يهودى عسكرى نسب له نقل معلومات هامة للموساد الإسرائيلى، ويقال إن قضيته تم التعتيم عليها مثل حالات كثيرة للتجسس الإسرائيلى على أمريكا.. ما المعنى؟ المعنى أن الأمر كله يخضع لاعتبارات السياسة.. قد تمسك المخابرات الأمريكية بعشرين جاسوسًا إسرائيليًا ولا تعلن.. وقد تشتبه فى حالة واحدة تعمل لحساب دولة أخرى فتجعل من الحبة قبة وتفجّر الأمر لأغراض سياسية.. هذه هى قواعد اللعبة.. لقد استفز هذا ضابط مخابرات أمريكيًا سابقًا يدعى «فيليب جرادى».. لقد قرر جرادى أن يرصد كل حالات التجسس الإسرائيلى فى مقال حمل عنوان «الجاسوس الذى يحبنا».. وهو عنوان ساخر ومُوحٍ.. يقول فيليب إن مدير «إف بى آى» تملّكه الغضب فى أواخر التسعينيات واتصل برئيس الموساد قائلًا له: «توقف عن هذا الأمر»! أما بالنسبة للضابط «قاديش» فقد كان يعمل تحت إدارة ضابط كبير فى الموساد هو نفسه الذى كان يدير «جوناثان بولارد»، وقد أشار إليه الأمريكيون فى الملفات باسم «ميجا» أو «الكبير»، لأنه من قواعد المخابرات أنه كلما زادت أهمية العميل زادت رتبة الضابط الذى يديره- حتى لو كان رئيس المخابرات نفسه!.. إذا عدنا لمقال «فيليب جرادى» الغاضب من إسرائيل فسنجده يقول إن نشاط إسرائيل فى أمريكا تعدى استخدام الجواسيس المباشرين إلى أنشطة أخرى مثل «التحكم فى عملاء يحتلون مواقع ذات تأثير فى صناعة القرار».. و«يديرون أعمالًا سرية من شأنها إمداد وسائل الإعلام بوسائل مضللة».. يمتلئ المقال المنشور فى مجلة «المحافظ» بعشرات الأمثلة والتفاصيل عن الاختراق الإسرائيلى المخابراتى لأمريكا.. والحقيقة أن التفاصيل موجودة لمن يبحث عنها.. وأنتقل من الحديث عن تجسس إسرائيل على أمريكا إلى واقعنا هنا فى مصر لأقول إن أى وطنى مصرى يقرأ عن النشاط الإسرائيلى فى أمريكا ستكون لديه رغبة فى أن يكون لمصر مثل هذا النشاط لحماية الأمن القومى المصرى.. فإذا كان لمصر مثل هذا النشاط فيجب أن نشكر المسئول عنه.. هذا إذا كان هذا المصرى وطنيًا ومصريًا عاديًا محبًا لوطنه.. وإذا افترضنا أن هذا المصرى ممن يولون اهتمامًا خاصًا بقضية مثل قضية فلسطين أو ينتمى لجماعة تتاجر بقضية فلسطين مثلًا.. فيجب أن يكون أكثر حرصًا على نجاح مصر فى الرد على أنشطة إسرائيل والحفاظ على مصالح الأمن القومى المصرى... هذا إذا كان حرصه على وطنه وقضاياه حقيقيًا.. أما إذا كان هذا الشخص من الهاربين الذين يعيشون على رواتب المخابرات المعادية، أو إذا كان هذا الشخص فوضويًا لا يؤمن بالدولة كمعنى من الأساس، أو إذا كان إرهابيًا لا يرى الوطن سوى «حفنة من تراب عفن»، كما قال مفكر الإرهاب سيد قطب، أو إذا كان هذا الشخص جاهلًا جهولًا مهمته قلب الحقائق وتدنيس ما هو نظيف.. وقتها فقط سيرى فى نشاط أجهزة الدولة لحماية أمنها القومى فضيحة.. الفضيحة هى وجود مثل هؤلاء بيننا واستمرارهم فى حمل الجنسية المصرية.