رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجيش المصرى رجال

لا أدرى متى اختزنت ذاكرتى هذه الصيحة محتفظة بإيقاعها الموسيقى والطريقة التى تلقى بها.. أظن أننى سمعتها فى فترة الجندية الأولى فى شتاء ١٩٩٦، وظلت محفورة فى الذاكرة.. لم أكن جنديًا مثاليًا، ولكننى أحببت وطنى أكثر مما أحببت أى شىء آخر.. الجيش الوطنى رجال.. حقيقة تتأكد كل يوم ومع كل نازلة تنزل بمصر أو بالأشقاء حولها.. الرجولة عند المصرى تعنى الشهامة.. أكثر من أى شىء آخر.. أن تهب لخدمة الآخر دون طلب منه ودون منفعة ترتجى.. كنت صبيًا أسير فى شوارع شبرا حين قال لى ميكانيكى يدفع سيارة معطلة.. إيدك معانا.. قالها بلهجة آمرة.. استجبت له.. ثم عاتبته.. ألا تقول لى من فضلك؟، نظر لى ابن البلد وقال بمودة «الرجولة مبتطلبش».. علمنى هذا الرجل درسًا أحفظه حتى الآن.. فى ليبيا كما فى السودان.. كما فى فلسطين والجزائر، وغيرها الكثير والكثير كان الجيش المصرى يستجيب للصيحة التى يعلّمها لجنوده فى مركز التدريب.. الجيش المصرى هو أنا وأنت.. ابن عمى وابن عمتك.. جارى وجارك.. عيوبه هى عيوب المصريين، ومميزاته هى مميزاتهم.. وأهم هذه المميزات هى إيمان المصرى بأن مساعدة الآخرين فرض تمليه الشهامة أو أن «الرجولة متطلبش»، كما قال لى الكهل فى حى شبرا.. رابطة مصر مع كل الدول العربية كبيرة.. جيشها هو الجيش العربى الأكبر دون منافس قريب أو بعيد.. ما يربطها بأشقائها كثير.. وما يربطها بالليبيين أكبر وأكبر رغم أى أوهام طارئة هنا أو هناك.. لآلاف السنين كان البلدان إقليمًا سياسيًا واحدًا.. عشرات القبائل والعائلات يعيش نصفها فى مصر ونصفها فى ليبيا.. ما حدث فى مصر وليبيا خلال الأسبوع الماضى يجسد معنى الدولة المستقرة فى مصر، ومعنى ضرورة الاستقرار فى ليبيا.. قبل أن ينتبه أى أحد.. وفى ظلام الليل كانت مصر الدولة قد رصدت حجم الدمار الذى وقع فى شرق ليبيا.. فى ساعات الصباح الأولى كان اجتماع الرئيس مع قادة القوات المسلحة، وكانت تكليفات التحرك والدعم والمساندة والحركة.. وكان الجميع على أهبة الاستعداد.. دون تدخل فى شئون الآخرين، فإن ما جرى كان مأساة طبيعية وسياسية أيضًا.. وصل عدد المتوفين إلى ثمانية آلاف شخص، ويقدر عدد المفقودين باثنى عشر ألف شخص.. رقم يقارب عدد شهداء مصر فى حربى يونيو وأكتوبر معًا.. إنهم شهداء غياب الدولة.. أو ربما ضحايا قوات الناتو التى أسقطت الدولة الليبية عن عمد فى ٢٠١١ وتركت الليبيين فى العراء.. دون دخول فى تفاصيل، فإن ما جرى كان عدوانًا خارجيًا على دولة آمنة ومستقرة رغم عيوب الحكم فيها، وقد دفع الليبيون الثمن وما زالوا يدفعون.. ما ضاعف من المأساة هو انهيار سدين فى مدينة درنة الليبية لم تجر لأحدهما أى صيانة منذ عام ٢٠٠٢ بسبب تحلل الدولة وتآكلها وإسقاطها بفعل عدوان الغرب عليها، وليس لأى سبب آخر.. إذا تجاوزنا عن نهب آلاف المليارات من عائدات البترول فى ليبيا والعراق، وغيرهما من الدول التى دمرها الغرب، فإن السؤال عن مسئولية إزهاق الأرواح يظل ماثلًا.. حسب التقارير الإعلامية فإن النزاع بين حكومتى الشرق والغرب فى ليبيا عطل جهود الإنقاذ، فضلًا عن أنه سبب أساسى فى تآكل البنية التحتية، سواء فى السدود أو غيرها.. لا يعرف كثيرون أن الدولة المصرية ساعدت بما لا يحكى فى تأسيس دولة الفاتح من سبتمبر فى ١٩٦٩.. قل ما شئت فى هذه الدولة.. لكن حياة الليبيين ظلت مصانة وآمنة لمدة أربعين عامًا كاملة، ولم نسمع أبدًا بمثل هذه الكوارث.. يقودنا هذا للتساؤل حول شياطين الإنس الذين بذلوا المليارات لعرقلة الجهود المصرية فى مساندة ليبيا منذ ٢٠١١ حتى وقت قريب.. وهل يتحملون المسئولية عن آلاف الأرواح التى تم إزهاقها؟.. لا تتردد مصر ثانية واحدة فى تقديم المساعدة للأشقاء، لا فى مجالات التعمير ولا البنية التحتية ولا التدريب ولا الإدارة ولا أى شىء آخر.. ونقول ليت المسئولين فى هذا البلد الشقيق طلبوا المساعدة فى صيانة السدود وفى أى مجال آخر يحتاجه حفظ حياة الليبيين.. من دروس ما جرى أن حقائق الجغرافيا لا يمكن تجاهلها.. وأن مصر هى الدولة الكبرى القادرة على إيقاف شقاء الشعوب العربية التى استهدف استقرارها ودولها بمؤامرات غربية وتمويلات مشبوهة.. فى ليبيا كما فى السودان.. كما فى غيرها من دول الوطن العربى الكبير.. كنا دائمًا سندًا منذ عقود طويلة.. بالمدرسين والأطباء والكراريس كما يعترف ذوو الفضل من أهل الخليج، وبالمقاتلين والسلاح كما يروى قادة الثورة فى الجزائر، وبالخبراء والمال والعتاد كما يروى من شهدوا تأسيس دول ما بعد الثورات فى العراق واليمن وليبيا.. كنا دائمًا هناك وسنظل هناك.. لأن هذه حقائق التاريخ والجغرافيا.. رغم أى أوهام أخرى.