رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معركة العزة والكرامة.. من «الخطة 200» لـ«العملية بدر».. كيف خطط الجيش لـ«يوم العبور العظيم»؟

معركة العزة والكرامة
معركة العزة والكرامة

لا ترتفع هامات المدافع والدبابات وما ثقل وخف من أسلحة، فى أى معركة، فتسيل الدماء وتمتزج بالأرض، وتعلو أصوات المقاتلين حماسًا ورغبةً فى الموت، دون وجود خطط محكمة ودقيقة للغاية، بتوقيتات وتفاصيل لا تقبل أى خطأ، فأى «هفوة» ربما تحدد مصير حرب وأمة.

وفى سجلات أعظم الحروب العسكرية التى خاضتها الشعوب والأمم طوال التاريخ العالمى سيتوقف التاريخ العسكرى طويلًا بالفحص والدرس أمام انتصار السادس من أكتوبر ١٩٧٣، ليس فقط ما حدث فى المعركة ذاتها، بل ما سبقها من خطط وتجهيز واستعدادية.

وربما لا يعرف كثيرون من الأجيال الجديدة تفاصيل الخطط العسكرية الخاصة بهذا الانتصار المصرى الأعظم، والتى لحقت حرب الخامس من يونيو ١٩٦٧ مباشرة، وصولًا إلى قرار «العبور».

بل والمفاجأة أن هذه الخطط بدأت من قبل ١٩٦٧، من خلال «عملية الفجر»، وهى عملية عسكرية مصرية كانت تستهدف ضرب القوات الجوية الإسرائيلية، من خلال القصف الاستراتيجى للموانئ والمطارات الرئيسية، ومفاعل «ديمونة»، ثم تبدأ الجيوش العربية فى الهجوم، وهو ما يعنى فعليًا وضع إسرائيل فى المنتصف، مع تواجد دفاع مدرع من شمال سيناء عبر صحراء النقب.

الخطة «200».. خير وسيلة للهجوم الدفاع

خطة دفاعية وضعها الفريق أول محمد أحمد صادق، القائد العام للقوات المسلحة المصرية آنذاك، تم تنفيذها بشكل جزئى خلال «حرب الاستنزاف»، وتعتمد على الدفاع عن الحدود المصرية فى سيناء وقطاع غزة بالتزامن مع شن بعض الغارات على مواقع العدو.

وتتكون الخطة «٢٠٠» من مرحلتين، الأولى منها تتمثل فى الدفاع عن الحدود المصرية فى سيناء وقطاع غزة، مع تنفيذ بعض الغارات على مواقع العدو، والثانية تتمثل فى تنفيذ هجوم مضاد إذا سمحت الظروف بذلك.

وعلى الرغم من أنها كانت خطة نمطية، مثلت الخطة «٢٠٠» خطوة مهمة فى إعادة بناء القوات المسلحة المصرية بعد هزيمة ١٩٦٧، إذ كان لا بد أن يبدأ التخطيط بخطة دفاعية، يمكن للقوات أن تنفذها بإمكاناتها المتواضعة عقب هذه الهزيمة، للدفاع عن غرب القناة.

ولذلك وضع المخططون فى قيادة الجبهة خططًا دفاعية للتشكيلات التى أمكن إعادة تجميعها واحتلالها للمواقع الدفاعية، وطبقًا لقدراتها القتالية المتيسرة، بعد الخسائر التى أصابتها فى حرب ١٩٦٧. ومع تزايد الإمكانات أمكن تطوير الخطة إلى شق دفاعى سُمى بـ«الخطة ٢٠٠»، وشق هجومى سُمى بـ«الخطة جرانيت».

وكانت الخطة «٢٠٠» تقوم على عقيدة قتالية تعتمد على دفاع ثابت لقوات فى مواقع متواصلة على طول جبهة قناة السويس من بورسعيد شمالًا إلى جنوب السويس، مع عمق مناسب، واحتياطيات متدرجة فى القوة ومتنوعة من أسلحة مقاتلة إلى أسلحة متخصصة، يمكنها تنفيذ هجوم مضاد لإجبار العدو، الذى تمكنت القوات الأمامية من صده وإيقافه فى عمق دفاعاتها، على الارتداد، وتكبيده خسائر كبيرة.

ولم يكن ذلك يحتاج إلى قوات عالية المستوى التدريبى بقدر ما كان يحتاج إلى قوات على قدر معقول من الكفاءة والمهارة القتالية، وقدر كبير من الإرادة والتصميم على منع العدو من اختراق دفاعاتها، وهو ما كان يناسب القوات وحالتها فى هذه الآونة.

«جرانيت».. النموذج الأول من «خطة التحرير» 

الخطة «جرانيت»، لم تكن هجومية بالمعنى الشامل لتلك الصورة من صور القتال الرئيسية «الهجوم»، فقد كانت قدرات القوات، خاصة الجوية، قاصرة عن تنفيذ هجوم رئيسى، تسليحًا وتدريبًا، ولذلك كانت «جرانيت» هى خطة لبعض الأعمال التعرضية المحدودة الهدف، لتنفيذ بعض الغارات على مواقع العدو فى سيناء.

ونتيجة لدراسة موقف القوات المصرية واحتياجاتها، ومقارنتها بالقوات الإسرائيلية، وإمكانات الإمداد بالأسلحة لكليهما فى المستقبل المنظور، كانت هناك قناعة لدى الجيش المصرى بعدم إمكان القيام بحرب شاملة لتحرير كل الأراضى المحتلة فى سيناء.

واستمر ذلك التفكير مسيطرًا على عقل المخطط المصرى بعد حرب يونيو ١٩٦٧ وحتى بدء الحرب فى أكتوبر ١٩٧٣، ونتيجة لدراسة كل الأفكار المطروحة عن الخطة المناسبة للعمليات القتالية المقبلة، ودراسة المعوقات والظروف المحيطة، تم التوصل إلى وضع خطتين هجوميتين، الأولى هدفها النهائى الاستيلاء على خط المضائق الجبلية شرق القناة، وسُميت بـ«عملية الرقم ٤١»، أما الخطة الثانية فكانت أقل عمقًا، وهدفها النهائى الاستيلاء على خط الدفاع الأول لإسرائيل شرق القناة مباشرة «خط بارليف»، وسُميت بـ«عملية المآذن العالية».

واشترك المستشارون العسكريون السوفيت فى تخطيط الخطة الأولى، بهدف إطلاعهم على ما يجب أن يكون لدى القوات من أسلحة ومعدات، لكى يمكنها تنفيذ الخطة. لذلك لم يكن متاحًا تنفيذها حقيقيًا إلا بعد أن يمد السوفيت القوات المصرية بما تحتاجه الخطة من أسلحة. أما الخطة الثانية فكانت أكثر واقعية، طبقًا للمتاح من قوات وأسلحة عام ١٩٧١، وكانت أكثر سريّة فى إعدادها، حيث لم يشارك فيها السوفيت، لذلك كانت كذلك خطة مصرية تمامًا.

وكان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قد صادق على الخطة «جرانيت» قبيل وفاته فى سبتمبر ١٩٧٠، التى تتضمن ٣ مراحل لحرب التحرير، تبدأ بعبور قناة السويس وإقامة رءوس لـ٥ كبارى، ثم الوصول إلى المضائق الحاكمة فى سيناء، ثم الوصول لخط الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة.

كما صدّق «عبدالناصر» على الخطة «٢٠٠»، التى تحسبت لهجوم مضاد للعدو الصهيونى فى منطقة المفصل الحرج بين الجيشين الثانى والثالث، حددت الخطة مكانه عند البحيرات المرة فى منطقة «الدفرسوار»، وهو ما حدث بالفعل، عقب قرار «السادات» المتأخر بتطوير الهجوم يوم ١٤ أكتوبر ١٩٧٣، ورفضه خطة رئيس الأركان سعدالدين الشاذلى بإغلاق الثغرة وتدمير قوات العدو فيها مبكرًا عبر استدعاء الفرق المدرعة.

ولتنفيذ الخطة تمكنت القوات المسلحة المصرية من الوصول إلى توازن قوى مع إسرائيل، حين قدم «عبدالناصر» أكبر دعم استراتيجى إلى القوات المسلحة، تمثل فى صفقة يناير ١٩٧٠ مع الاتحاد السوفيتى لمصلحة الدفاع الجوى، الذى نجح فى إقامة أضخم حائط صواريخ فى العالم وأكثره تقدمًا، والذى نجح فى تحدى الطيران الإسرائيلى- السلاح المتفوق الوحيد لدى إسرائيل.

وكان «عبدالناصر» قد حدد تاريخ الحادى عشر من نوفمبر ١٩٦٩ موعدًا لشن الحرب، على ضوء استكمال الاستعدادات السياسية والعسكرية لها، وبعد أن وظف قبوله لمشروع «روجرز» فى سياق تكتيكى لاستكمال بناء حائط الصواريخ على قناة السويس.

وأعطى «عبدالناصر» أوامره للفريق أول محمد فوزى بالاستعداد لشن معركة التحرير فور انتهاء مهلة وقف إطلاق النار فى ٧- ١١- ١٩٧٠، كما أكد سامى شرف، سكرتير جمال عبدالناصر للمعلومات ووزير شئون رئاسة الجمهورية الأسبق، أن جمال عبدالناصر فى أغسطس عام ١٩٧٠ وقّع على خطط العبور «جرانيت ١» و«جرانيت ٢» و«القاهرة ٢٠٠٠»، والأخيرة هى التى تعنى الضوء الأخضر والنهائى لبدء تنفيذ خطط تحرير الأراضى المحتلة.

وجاء ذلك بعد أن استكمل «عبدالناصر» استعداداته لشن حرب التحرير باكتمال حائط الصواريخ، وتحريكه حتى حافة الضفة الغربية لقناة السويس، حيث كان قرار شن حرب التحرير مسألة وقت، وبعد تأمين سماء مصر من الطيران الإسرائيلى بدأ العد التنازلى للحظة العبور.

وبعد رحيل «عبدالناصر»، واستقالة الفريق محمد فوزى، وتولى المشير أحمد إسماعيل وزارة الحربية، وبموجب الخطة العسكرية بين الرئيس السادات والرئيس حافظ الأسد، تم تنظيم التعاون بين القيادتين المصرية والسورية يوم ٧ أكتوبر ١٩٧٣، بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية فى مدينة نصر، وهى الخطة التى غير اسمها الرمزى فى سبتمبر ١٩٧٣ إلى اسم «الخطة بدر».

«التوجيه 41».. تحديد مهام كل جندى ودوره وترتيب الجلوس على قوارب العبور

فى بدء التخطيط لمعارك النصر، وضع الفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس أركان القوات المسلحة قبل حرب السادس من أكتوبر، توجيهًا عسكريًا لكل جندى مقاتل فى القوات المسلحة فى مظروف صغير، وأسماه «التوجيه ٤١»، وتضمن كل تفصيلة سيقوم بها الجندى خلال الـ٢٤ ساعة الأولى بعد بدء الحرب.

وشمل التوجيه تنسيق هجوم ١٢ موجة بشرية تجاه خط بارليف، لتفكيكه وفتح ممرات خلاله فى غضون ٥- ٧ ساعات، بالإضافة إلى تنسيق نصب الكبارى المائية فى غضون ٦- ٨ ساعات لفتح الثغرات فى الساتر الترابى.

وحدد التوجيه أيضًا عدد الجنود فى كل قارب مائى سيعبر قناة السويس إلى الضفة الشرقية، ومهمة كل جندى على القارب، بل ومكان جلوسه به، ففى مقدمة القارب يجلس «حكمدار الجماعة» أو قائد القارب، وعلى يمينه يجلس حامل الآر بى جيه «RBG»، وخلفه يجلس حامل الرشاشات الآلية، ثم حامل قذائف الآر بى جيه الاحتياطية، وفى المؤخرة يجلس ٢ من حاملى الألغام.

ووفقًا لذلك التوجيه أصبحت مهام الجنود فى الحرب واضحة، ومساحة الخطأ فيها محدودة للغاية، خاصة أن الجنود تدربوا على كل ما يتعلق بمهامهم قبل عام ونصف العام من موعد الحرب، دون علمهم بذلك الموعد، الذى لم يبدأ الكشف عنه إلا قبل بدء الحرب بأيام قليلة.

«العملية بدر».. السيطرة على خط بارليف بدأت بالضربة الجوية والقصف المدفعى تمهيدًا لفتح الجسور والمعابر

بدأت «العملية بدر» فى الساعة الـ١٤:٠٠ يوم الـ٦ من أكتوبر ١٩٧٣، خلافًا لتوقعات الإسرائيليين، وبدأت العملية بضربة جوية كبيرة بأكثر من ٢٠٠ طائرة ضد ثلاث قواعد جوية، وبطاريات الدفاع الجوى هوك، وثلاثة مراكز قيادة ومواقع المدفعية وعدة محطات رادار، باستخدام طائرات ميج ٢١، وميج ١٧، وسو ٧. 

وتم ذلك بالتنسيق مع الضربات المدفعية التى بدأت فى الساعة ١٤:٠٥، عبر حوالى ٢٠٠٠ قطعة مدفعية، ضربت خط بارليف ومناطق تمركز المدرعات ومواقع المدفعية، وذلك باستخدام المدافع الميدانية ومدافع الهاوتزر ومدافع الهاون ومدافع الدبابات وB-10 وB-11 بنادق عديمة الارتداد، وتم تعيين مدافع هاوتزر ذاتية الدفع عيار ١٥٢ ملم، ومدافع الميدان ١٣٠ ملم فى مهام مضادة للبطاريات ضد المدفعية الإسرائيلية.

واستمر إطلاق النار لمدة ٥٣ دقيقة، وهو أحد أكبر الأعمال فى التاريخ فى هذا الإطار، ودامت الدفعة الأولى منه خمس عشرة دقيقة، وكانت تستهدف أهداف العدو على الضفة الشرقية للقناة حتى عمق ١.٥ كيلومتر، وتم فيها إطلاق ما يقدر بـ١٠٥٠٠ قذيفة على أهداف إسرائيلية فى الدقيقة الأولى وحدها.

عندما انتهى القصف الأول، بدأت المدفعية المصرية فى إطلاق وابل آخر مدته ٢٢ دقيقة، ضد أهداف على عمق يتراوح بين ١.٥ و ٣ كيلومترات، وفى هذا الوقت، ١٤:٢٠، بدأت الموجة الأولى من عبور المشاة من ٤٠٠٠ رجل، نجحوا فى عبور القناة باستخدام حوالى ٢٥٠٠ زورق، وقوارب مطاطية لنقل الجنود، واستخدمت عبوات الدخان فى نقاط العبور لتوفير الغطاء. 

فى ليلة ٥ أكتوبر، قام المهندسون بسد الأنابيب تحت الماء على الضفة المقابلة، ومنعوا الإسرائيليين من إطلاق السوائل القابلة للاشتعال فى القناة وإشعالها.

وكانت الموجة الأولى من العبور مجهزة بشكل خفيف، ومسلحة بأسلحة RPG-7s وصواريخ ستريلا ٢، وسلالم حبال لتسلق الساتر الترابى.

من بين الموجة الأولى كان المهندسون المقاتلون وعدة وحدات من الصاعقة، الذين كلفوا بإعداد كمائن على طرق الإمداد، ومهاجمة مواقع القيادة وبطاريات المدفعية من أجل حرمان الإسرائيليين من السيطرة على قواتهم، بينما قام المهندسون باختراق حقول الألغام والأسلاك الشائكة المحيطة بمراكز الدفاع الإسرائيلى. 

بعد ذلك مباشرة، نقل المهندسون العسكريون مضخات المياه إلى الضفة المقابلة وبدأوا فى تركيبها.

فى هذا الوقت بدأت الطائرات المصرية المشاركة فى الغارة الجوية فى العودة، بعد أن أوقفت الضربة الجوية قاعدتى بئر جفجافة وبئر ثمادا لمدة ٤٨ ساعة، وألحقت أضرارًا بقاعدتى رأس نصرانى وبئر الحسنة، وتم تدمير حوالى عشر بطاريات من طراز هوك وبطاريتى مدفعيتين عيار ١٧٥ ملم على الأقل، ومركز تشويش إلكترونى فى أم خشيب، ومحطات رادار مختلفة.

وسمح هذا للقوات الجوية المصرية بالعمل لبقية الحرب دون أى تدخل من الاتصالات الأرضية، حيث كان مركز التشويش الوحيد فى سيناء فى العريش خلف الجبهة بشكل كبير. 

وتم إطلاق أكثر من عشرة صواريخ AS-5 Kelt من قاذفات توبوليف ١٦، كما تم إسقاط العديد منها، لكن خمسة على الأقل أصابت أهدافها، بما فى ذلك صاروخان مزودان مضادان للإشعاع الرادارى ضربا الرادارات الإسرائيلية، وتسبب نجاح الضربة الجوية الأولى فى إلغاء الضربة الجوية الثانية. 

وفى البحيرات المرة، تمكن اللواء ١٣٠ البرمائى المصرى من العبور، وكان يتألف من كتائب المشاة الميكانيكية رقم ٦٠٢ و ٦٠٣، والتى تضم ١٠٠٠ مقاتل، بما فى ذلك كتيبة ساجر المضادة للدبابات وكتيبة مضادة للطائرات و٢٠ دبابة من طراز PT-76، و١٠٠ ناقلة جند مدرعة برمائية، وقد كُلفت بمهمة البحث عن منشآت العدو وتدميرها داخل ممرى متلا والجدى، ووصل اللواء إلى الضفة المقابلة فى حوالى الساعة ١٤:٤٠ دون أى خسائر. 

بعد ذلك فى حوالى الساعة ٤:٠٠ مساء، كانت الكتيبة رقم ٦٠٣ تعيد تجميع صفوفها خارج حقل ألغام تعرضت له، ونجح سلاح المهندسين فى تجاوزه، لكنها تعرضت لهجوم من قبل مجموعة من الدبابات شرق منطقة كبريت، من أحد حصون خط بارليف، فتم تعزيز الكتيبة بمفرزة لصيد الدبابات من الفرقة السابعة، وتمكنت من تدمير دبابتين وثلاث مركبات مصفحة قبل انسحاب الإسرائيليين، وسيطرت على حصن كبريت، واحتلت الموقع على مدار الأيام التالية.

ونجحت القوات المسلحة المصرية فى رفع العلم المصرى على الضفة الشرقية للقناة منذ الساعة ١٤:٣٥، وبحلول ذلك الوقت بدأت وحدات من الكتائب والمشاة من الدبابات والمشاة الإسرائيلية تصل إلى خط بارليف، لكن تم منعها من الوصول إلى مواقعها بواسطة الكمائن المصرية.

وفى الساعة ١٤:٤٥ هبطت موجة ثانية من المشاة على الضفة الشرقية، وتبعتها باقى الموجات، مع إعطاء الأولوية للفرق المضادة للدبابات والأسلحة التى يمكن أن تؤثر بشكل خطير على المعركة، كما استخدمت المركبات البرمائية لعبور المعدات.

فى الساعة ١٥:٣٠ من يوم السادس من أكتوبر، استولت القوات المصرية على حصن «لحزانيت»، وهو أول حصن يسقط فى خط بارليف، وبعد ذلك تم تعزيز فرق المشاة ببنادق ٨٢ ملم من طراز B-10، و١٠٧ ملم من طراز B-11.

فى الوقت نفسه، بدأ المهندسون فى تشغيل مضخات المياه الخاصة بهم مقابل الساتر الترابى، وفتحوا أول ممر فى أقل من ساعة، لنقل وحدات إنشاء رءوس الكبارى إلى ضفة القناة.

وبحلول الساعة ١٦:٣٠، جمعت ثمانى موجات عبور نحو عشرة ألوية مشاة فى جميع رءوس الكبارى الخمسة، أى ما مجموعه ٢٣٥٠٠ مقاتل، وكان كل رأس كوبرى فى المتوسط بعرض ٦ كيلومترات، وعمق حوالى كيلومترين.

وفى الساعة ١٧:٣٠، أى بعد ثلاث ساعات من الحرب، عبرت الموجة الثانية عشرة والأخيرة من المشاة، ليصل المجموع إلى ٣٢٠٠٠ مقاتل، وبحلول ذلك الوقت وصلت الخسائر الإسرائيلية إلى حوالى ١٠٠ دبابة، مع تعرض قوات الإمداد لحصون خط بارليف إلى الكمائن المنصوبة من الجنود المصريين.

وفى الساعة ١٧:٥٠، تم إسقاط أربع كتائب صاعقة فى عمق سيناء بواسطة طائرات هليكوبتر تحلّق على علو منخفض، وتم تكليفها بعرقلة الاحتياطيات القادمة من إسرائيل.

وفى الساعة ١٨:٠٠، بدأت المدرعات المصرية والوحدات المضادة للدبابات فى الضفة الغربية بالتحرك نحو مواقع عبور القناة، وبعد ١٥ دقيقة أنهى المهندسون تجميع جميع كبارى العبور، وانتظروا فتح الممرات.

وبحلول الساعة ١٨:٣٠ كان عمق رءوس الكبارى يقترب من خمسة كيلومترات، مع القضاء على المدفعية الإسرائيلية على خط بارليف، كما تم نقل وحدتى سام ٢ وسام ٣ اللازمتين للتقدم للأمام. 

ومن الساعة ٢٢:٣٠ حتى ٠١:٣٠ بعد منتصف ليل السادس من أكتوبر، وضعت جميع كبارى العبور فى أماكنها، واستمرت فى نقل التعزيزات إلى الضفة الشرقية للقناة.

وفى أقصى جنوب القناة، أى فى قطاع الفرقة ١٩، تم نشر أربع عبارات وثلاثة كبارى عبور مخصصة لهذا القسم قبل سبع ساعات من الموعد المحدد لها، رغم الضربات الجوية الإسرائيلية التى استهدفتهم، ما سمح بنقل الدبابات والعربات المدرعة نحو سيناء، وكانت الشرطة العسكرية مسئولة عن توجيه هذه الحركة الضخمة باستخدام علامات مشفرة بالألوان.

أما عن التحركات البحرية، فبحلول يوم السادس من أكتوبر كانت القوات البحرية المصرية فى باب المندب، وعندما بدأت «العملية بدر» فى تمام الساعة ١٤:٠٠ فرضت القوات البحرية المصرية الحصار على المنطقة، واعترضت الغواصات والمدمرات المصرية السفن التى كانت تمر عبر باب المندب متجهة إلى ميناء إيلات، وتوقفت جميع الملاحة البحرية الإسرائيلية فى البحر الأحمر.

وكان الحصار نجاحًا استراتيجيًا لمصر، فى حين لم تتمكن القوات الجوية والبحرية الإسرائيلية من رفع هذا الحصار بسبب المسافة الطويلة بين إسرائيل وباب المندب، كما تم زرع الألغام عند مدخل خليج السويس لمنع إسرائيل من نقل النفط من حقول سيناء إلى إيلات.

وقامت البحرية المصرية بعدة مهام أخرى، إذ شاركت المدفعية الساحلية فى بورسعيد فى التحضير للحرب بقصف حصن بودابست وحصن أوركال، بينما ضربت المدفعية الساحلية فى السويس أهدافًا مقابل الجيش الثالث، وقصفت الزوارق الصاروخية منطقة رمانة ورأس سدر وغيرهما، وداهم رجال الضفادع البحرية المنشآت النفطية فى بلاعيم.

ووقعت عدة اشتباكات بحرية بين قوارب الصواريخ المصرية والإسرائيلية قبالة الساحل بين بورسعيد ودمياط، بما فى ذلك واحدة فى ٨ أكتوبر، عندما حاول أسطول مكون من عشرة قوارب صواريخ إسرائيلية قصف أهداف ساحلية على طول الدلتا.

واستهدفت «العملية بدر» توسيع رءوس الكبارى داخل شبه جزيرة سيناء فى ٨ أكتوبر، ولتحقيق ذلك كان على كل فرقة من فرق المشاة الخمسة إعادة تنظيم قواتها، وكانت ألوية المشاة الميكانيكية تتقدم، وخلال فترة ما بعد ظهر ذلك اليوم فوجئ الإسرائيليون بمشهد تقدم القوات المصرية، ولكن لم تتمكن عدة وحدات من الوصول إلى الكيلو ١٢ شرق القناة، وهى المسافة الضرورية لتوسيع السيطرة، رغم نجاحها فى الوصول لأعماق تزيد على ٩ كيلومترات.

وفى قطاع الجيش الثانى الميدانى، كانت فرقة المشاة السادسة عشرة هى الأكثر نجاحًا، من خلال احتلال المواقع الاستراتيجية المحددة لها بعد قتال استمر لما يزيد على ساعتين.

فيما وصل تغلغل الجيش الثالث حتى ما يقرب من ١٨ كيلومترا، كما استولى الجيش المصرى على عدد كبير من حصون خط بارليف على طول خط المواجهة.

«المآذن العالية».. استراتيجية شاملة لعبور القناة وتدمير بارليف

«المآذن العالية» هى أول خطة هجومية للجيش المصرى، وضعها الفريق الشاذلى، قبل أن يتم تطويرها إلى «الخطة بدر» قبل الحرب بشهر واحد.

ويلخص «الشاذلى» خطته فى مذكراته بالقول: «لقد كانت خطتنا تتلخص فى عبور أفراد المشاة المترجلين فى قوارب مطاطية حاملين معهم أسلحتهم الخفيفة التى يستطيعون حملها أو جرها على الشاطئ البعيد، وكنا ننتظر أن تبدأ المعديات فى العمل بعد ٥: ٧ ساعات من بدء الهجوم، وستكون الكبارى جاهزة بين ٧: ٩ ساعات من ساعة الصفر، وبحساب قدرة جميع المعديات والكبارى المنصوبة، فإن الدبابات والأسلحة الثقيلة ستحتاج إلى ٣ ساعات على الأقل للعبور والانضمام إلى المشاة، أى أن القوات لن تكتمل لكى تصبح قادرة على صد الهجوم المضاد قبل ١٢ ساعة من انطلاق الحرب».

وكان الهدف الأساسى لخطة «المآذن العالية» هو عبور قناة السويس، وتدمير خط بارليف واقتحامه، ثم اتخاذ أوضاع دفاعية على مسافة تتراوح بين ١٠- ١٢ كم شرق القناة، وهى المسافة المؤمّنة بواسطة مظلة الصواريخ المضادة للطائرات، على أن تتألف القوة المهاجمة من ٥ فرق مشاة، بإجمالى قوات يصل إلى ١٢٠ ألف جندى.

وحسب الخطة، تتمسك القوات المرابطة فى شرق القناة بالأرض وتصد هجمات العدو وتكبده أكبر خسائر ممكنة، فى حين تبقى فرقتان ميكانيكيتان غرب القناة، إضافة إلى فرقتين مدرعتين على بُعد ٢٠ كم غرب القناة كاحتياطى تعبوى لفرق المشاة الخمس، فضلًا عن احتياطى القيادة العامة المؤلف من ٣ ألوية مدرعة وفرقة ميكانيكية، وقد رُوعى فى فرقة المشاة أن تكون قادرة على صد فرقة مدرعة إسرائيلية من ٣ ألوية مدرعة.

ووضع الفريق الشاذلى خطة «المآذن العالية» حينما تمكن السادات خلال سفره إلى موسكو من إبرام أكبر صفقة أسلحة مصرية، تضمنت ١٠٠ طائرة مقاتلة من طراز «ميج ٢١»، و١٠ قاذفات من طراز «توبوليف تو- ١٦»، وصواريخ «سام ٦» المضادة للطائرات والمدفعية الثقيلة، وتمكن من تغيير اسم «العملية ٤١» إلى «جرانيت ٢»، ومن ثم وضع خطة «المآذن العالية» للعبور فى خمس مناطق منفصلة على طول القناة.

وُوضعت الخطة من أجل تقدم المصريين ١٠- ١٥ كيلومترًا «٦.٢-٩.٣ ميل»، ثم إنشاء مواقع دفاعية، من خلال تقييد تقدمهم، وستبقى القوات البرية المصرية ضمن نطاق دفاعاتها الجوية الخاصة بأنظمة صواريخ «سام»، والتى ستوفر مظلة واقية، ما ينفى الميزة الإسرائيلية فى الهواء.

وبهذه الطريقة تم وضع خطة «المآذن العالية» وفقًا لقدرات الجيش المصرى، وتم الانتهاء منها بحلول سبتمبر ١٩٧١، فى سرية تامة.

تم تطوير خطة «المآذن العالية» باعتبارها الخطة الهجومية الوحيدة القابلة للتنفيذ، مع ربيع عام ١٩٧٣، كونه موعد إطلاق ممكنًا. استنادًا إلى تقديرات المخابرات ستحدث الهجمات المضادة الإسرائيلية الرئيسية بعد ٦ إلى ٨ ساعات من بدء الهجوم من قبل ٣ فرق مدرعة، بينما لن يتوفر الدعم المدرع للعبور قبل ١٢ ساعة على الأقل.

للتعامل مع هذا سيتم تزويد المشاة المصريين بأعداد كبيرة من الصواريخ الموجهة للدبابات «ATGM»، والقذائف الصاروخية «RPG». والأسلحة المحمولة المضادة للدبابات كانت بشكل أساسى هى «RPG- 7» وعدد أقل من أجهزة «AT- 3 Sagger» المُوجَّهة بالأسلاك، بالإضافة إلى مئات البنادق عديمة الارتداد والأسلحة التقليدية.

كما تم تجهيز المشاة بأجهزة الرؤية الليلية ونطاقات الأشعة تحت الحمراء ونظارات لحام لمواجهة تكتيك يستخدمه الإسرائيليون فى كثير من الأحيان، وهى الأضواء الكاشفة «زينون» المثبتة على الدبابات والمركبات لجعل العدو أعمى فى الليل، وأيضًا السماح للمشاة بحمل مجموعة متنوعة من الأسلحة الثقيلة «ATGMs، وقاذفات اللهب، والمدافع الرشاشة، والألغام».

وتم تصميم ٥ شدات ميدانية مختلفة أخف وزنًا، واستوعبت زجاجات مياه أكبر، ويمكن أن تحمل إمدادات غذائية على مدار ٢٤ ساعة، وتم تصميم كل شدة ميدانية خصيصًا لتلبية احتياجات مختلف فرق الهجوم، وكان الحل الآخر هو استخدام عربات بأربع عجلات لنقل المعدات والأسلحة والذخيرة، وسيتم استخدام أكثر من ٢٢٠٠ عربة من هذا القبيل فى العبور، ما يوفر القدرة على نقل ما يقرب من ٣٣٠ طنًا من العتاد، كما سيتم نشر سلالم حبل بعوارض خشبية لرفع الذخيرة والمعدات الثقيلة، مثل بندقية «B- 11» عديمة الارتداد، إلى أعلى الساتر الترابى.

وألزمت خطة «المآذن العالية» مشاة الهجوم بإقامة رءوس جسور على عمق ٥ كيلومترات وعرضها ٨ كيلومترات. وفى البداية سيحصل الهجوم مدعومًا بنيران المدفعية، وبمجرد عبور التعزيزات والدروع سيتم تعميق رءوس الجسور إلى ٨ كيلومترات، وكان لا بد من تحقيق ذلك فى غضون ١٨ ساعة من بدء العملية، ستشن القوات الجوية والقوات البحرية هجمات لتأخير الاحتياطيات الإسرائيلية المتجهة إلى خط بارليف.

ومر ربيع عام ١٩٧٣ دون شن أى هجوم. وفى ٢١ أغسطس من ذلك العام فى سرية تامة، وصل ٦ من كبار القادة السوريين، مستخدمين أسماء وجوازات سفر مزيفة، من اللاذقية إلى ميناء الإسكندرية، فى سفينة ركاب سوفيتية تقل سياحًا. وكان من بين القادة السوريين بشكل أساسى وزير الدفاع، اللواء مصطفى طلاس، ورئيس الأركان، اللواء يوسف شكور.

لليومين المقبلين اجتمعوا مع نظرائهم المصريين فى مقر البحرية المصرية فى قصر رأس التين. بحلول ٢٣ أغسطس تم التصديق على وثيقتين من قبل «الشاذلى» و«شكور»، خلصتا إلى أن القوات المسلحة المصرية والسورية كانت جاهزة للحرب.

كل ما بقى هو اختيار موعد، إما ٧- ١١ سبتمبر، أو ٥- ١٠ أكتوبر. كان من المقرر أن يتم اختيار التاريخ بشكل مشترك بين الرئيسين السادات وحافظ الأسد، وكان مطلوبًا منهم إبلاغ قادتهم بقرارهم قبل ١٥ يومًا من تاريخ الهجوم.

بتنسيق مصرى، تم اختيار ٦ أكتوبر لعدة أسباب. كانت سرعة تيار الماء والمد والجزر مثالية لعملية العبور، وفى معظم الليل كان هناك اكتمال القمر، ما يسهل بناء الجسر. تزامن التاريخ مع «يوم الغفران»، وهو يوم الكفارة اليهودى.

كان هذا عاملًا مهمًا فى اختيار ٦ أكتوبر للهجوم، فاليهود الملتزمون يصومون فى ذلك اليوم، ويمتنعون عن استخدام النار أو الكهرباء، ما يعنى أن النقل سيكون فى طريق مسدود، وسيتم تسريح الكثير من الجيش الإسرائيلى.

تزامن شهر أكتوبر أيضًا مع شهر رمضان، مما يعنى أن الجنود المسلمين سيصومون. فى رمضان حقق المسلمون انتصارهم الأول فى معركة بدر فى عام ٦٢٤. واختاروا أمرًا أكثر إلهامًا من «المآذن العالية» كاسم، وتم اختيار اسم «العملية بدر» من قبل القادة المصريين كاسم رمزى للهجوم.