رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر والممر والطريق

 

 

مشروع الممر الاقتصادى بين الهند وإسرائيل ليس مفاجأة بالكامل.. هناك دراسات تحدثت عنه عرضت لبعضها فى جريدة الدستور منذ أكثر من عام.. الفكرة فى وجود خط «بحرى- برى- بحرى» يربط الهند وأوروبا عبر موانئ الخليج وإسرائيل، الإعلان الأمريكى عن الممر يوحى بأن هدفه سياسى بالأساس.. أولًا ضرب طريق «الحزام» الصينى الذى من المقرر الانتهاء منه ٢٠٤٩، وثانيًا توطيد التطبيع بين الخليج وإسرائيل، وجعل إسرائيل بلدًا طبيعيًا فى المنطقة والعالم بعد عقود من المقاطعة العربية والإفريقية والآسيوية تآكلت على مدى السنوات، والهدف الثالث ضرب أفكار لمشاريع أخرى تكون روسيا طرفًا فيها عبر التعاون مع إيران أو تركيا؛ بهدف الوصول لسواحل المتوسط ثم أوروبا.. التقارير الصحفية تتحدث عن توفير هذا الممر الملاحى لـ٤٤٪ من الوقت الذى تستغرقه السفن عبر قناة السويس، وهذه ميزة لا شك فيها، لكنها تتحدث أيضًا عن صعوبة تنقل البضائع بين البر والبحر أكثر من ثلاث أو أربع مرات، وهذا يتوقف على مدى توظيف الآلات فى أعمال التفريغ والشحن.. كل المؤشرات تقول إن الممر لن يبدأ كمشروع اقتصادى هادف للربح، وإن دول الخليج ستنفق عليه مئات المليارات كى يرى النور.. ستكون دول الخليج نفسها هى العميل الأول للخط الملاحى، حيث لديها استثمارات زراعية وحيوانية ضخمة للغاية فى الهند، وسيكون الهدف الأول نقل الحاصلات الهندية لموانئ الخليج، ثم نقل بترول الخليج لأوروبا عبر إسرائيل، والهدف خلق رابطة اقتصادية قوية مع إسرائيل تجعلها حليفًا عسكريًا لدول الخليج وحاميًا لها، أما الهدف الثالث فهو تحقيق رغبة أمريكا فى تقوية الهند ضد الصين وضرب مشروع طريق الحرير الجديد، وهو فى أساسه ممر تنمية يهدف لتوطين الصناعات الصينية عبر العالم، وهو بشكل عام أكثر من مجرد طريق.. على الهامش تتحدث بعض الأنباء عن تحقيق أهداف لبعض الأنظمة العربية فى الكيد لمصر ولبنان.. فاللبنانيون يتساءلون لماذا لا ينتهى الخط الخليجى فى بيروت وصيدا وصور وطرابلس بدلًا من إسرائيل؟.. وبعض المغردين يتحدثون عن أن الهدف من الخط ضرب قناة السويس.. بلغة الشارع نحن نتحدث عن «سمك فى ماء»، فالممر ما زال مثل غيره من المشاريع المنافسة مجرد فكرة، وتنفيذه يحتاج لسنوات، وهو يواجه تحديات متعددة أهمها خطر التنظيمات الإرهابية فى السعودية.. منذ التسعينيات يستهدف الإرهاب الوجود الأمريكى فى السعودية.. هناك اعتقاد تسانده أدلة فقهية أن وجود غير المسلمين فى أرض الجزيرة أمر محرم شرعًا، لذلك أخرج عمر بن الخطاب اليهود من شبه الجزيرة العربية.. هناك إشكالية كبيرة فى أن تستقبل أرض الحرمين الشريفين وفودًا من إسرائيل بعد ألف وأربعمائة وخمسين عامًا من غزوة خيبر.. على الأقل هذه طريقة تفكير الإرهابيين.. أساس ظهور تنظيم القاعدة كان العداء للوجود الأمريكى بعد حرب الخليج، وبالتالى فإن تحدى الإرهاب ربما يواجه خطر الخط البرى داخل السعودية.. هذا مجرد تحليل سياسى، أما الموقف الشخصى فأنا أسأل الله السلامة لكل الدول والشعوب العربية.. التطورات التى تحدث حولنا تجيب عن أسئلة داخل مصر.. الآن بتنا نعرف لماذا كان تطوير قناة السويس هو أول مشروع قومى تنفذه مصر فى عهد الرئيس السيسى، ولماذا كان التصميم على مد الخطوط البرية بين شرق مصر وغربها وشمالها وجنوبها.. إحدى العلامات المهمة التى يجب أن نتوقف أمامها هو توقيت إشعال الحرب الأهلية فى السودان، ومساندة بعض الدول للأطراف المختلفة.. هل لهذا علاقة بضرب قدرة مصر على مد خط برى آمن داخل إفريقيا؟.. من المعلوم أن مصر كانت تخطط لقطار برى يصل بين أقصى شمال مصر وبين السودان، وأن الهدف نقل البضائع المصرية والعالمية لإفريقيا عبر موانئ مصر المختلفة.. بهذه الإمكانات الجاهزة تصلح مصر أن تكون مدخلًا لإفريقيا، سواء عبر المشاركة فى مبادرة «الحزام والطريق» أو عبر مبادرة «الممر الاقتصادى الهندى»، أو غيرهما من المبادرات.. يمكن لأى كائن على وجه الأرض أن يأتى ببضائعه لمصر والتسهيلات المصرية كفيلة بنقلها لإفريقيا عبر البر.. فهل كان إشعال الحرب الأهلية فى السودان بهدف إيقاف هذا التعاون المفيد لمصر وللسودان معًا؟، هل كان هدفه إبطال مبرر ضم مصر للممر الاقتصادى الهندى، أو إفشال تعاونها مع الصين فى طريق الحرير الجديد؟ من المبكر جدًا الحكم.. لكن الأكيد لمواليد السبعينيات مثلى أننا نعيش فى عالم جديد ملىء بالتحديات والمواجهات والصراعات.. وأنه فى عالم السياسة كما فى عالم العلاقات العائلية يصدق المثل القائل «الأقارب عقارب».. لكنهم رغم هذا يظلون أقارب.. وهذه هى المعضلة.. أعاننا الله عليها وقدرنا على أعدائنا.. المعلن منهم والخفى، والظاهر منهم والباطن.. إنه سميع مجيب الدعاء.