رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السيسى.. وغاندى

زار الرئيس عبدالفتاح السيسى وقادة مجموعة العشرين، أمس الأول، ضريح المهاتما غاندى، حيث وضعوا أكاليل الزهور على الضريح، وغاندى كان رجلًا سياسيًا مخضرمًا، واتبع نهجًا جديدًا فى المقاومة لاستقلال الهند، وبالطبع استعادت مجموعة العشرين، أمس، فلسفة غاندى فى التعامل مع الآخرين. 

ولعل لقاء الرئيس السيسى، الرئيس التركى رجب طيب أردوغان فى الهند، والتأكيد على الاحترام المتبادل والتعاون الثنائى بين مصر وتركيا، يؤكد استلهام السيسى فلسفة غاندى فى الصفح والغفران وفتح صفحة جديدة، وأنه فى عالم السياسة لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، ولكن توجد دائمًا المصالح المشتركة والحدود التى تحفظ حدود جميع الأطراف.

فـ«غاندى» كان له موقف واضح من قضية العنف وهو ناضل فى بلاده نضالًا سلميًا لا عنفيًا، فمن حيث المبدأ يرفض غاندى الجُبن والخنوع، ويعتبر أن اللا عنف هو أفضل وأسمى بما لا يُقاس من العنف، فهو يتطلب شجاعة كبيرة واحترامًا للخصم. فقبل أن يباشر غاندى حملته فى العصيان المدنى بالهند، كتب إنذارًا لنائب الملك البريطانى قال له فيه: «إذا لم تعترفوا باستقلال الهند سنبدأ بالمقاومة»، وقد بدأ إنذاره هذا بعبارة «صديقى العزيز»؛ وقد أغضبت هذه العبارة أصدقاءه، لكنهم أدركوا أن غاندى كان يحترم شخصية الإنجليز، لكنه لم يكن يحترم استعمارهم بلاده وإذلالهم الشعب الهندى، وهكذا سار غاندى مشيًا على الأقدام مئات الكيلومترات، مستنفرًا الفلاحين للعصيان المدنى، فيما عُرف بـ«مسيرة الملح»؛ ما أدى لاحقًا إلى اعتقال غاندى، واعتُقل معه الآلاف من أبناء الشعب الهندى، حتى فاضت السجون، ثم أُطلق سراحهم جميعًا، وعن مدى نجاحه فى النضال اللا عنفى يقول غاندى: مارست اللا عنف وإمكاناته بدقة علمية ما يزيد على خمسين عامًا من حياتى، لقد طبقته فى كل مجالات الحياة، عائليًا ومؤسساتيًا واقتصاديًا وسياسيًا، ولا أتذكر حالة فشل واحدة فيها، وحين بدا لى فى بعض الحالات وكأنه فشل؛ فإن السبب فى ذلك كانت نواقصى، لست أدعى الكمال لنفسى، لكنى أؤكد أننى أبحث بشغف عن الحقيقة التى هى الاسم الآخر للألوهية، وخلال بحثى هذا اكتشفت اللا عنف الذى أصبح نشره بالنسبة لى رسالتى فى هذه الحياة، ولا مصلحة لى أن أستمر فى هذه الحياة إن لم يكن من أجل هذه الرسالة.

ورفض غاندى بأى شكل تبرير العنف أو شرعنته، فالإنسان العنيف يسيطر ليبرر العنف، فيبنى لذلك عقائد لـ«العنف المشروع» فى نظره، كالدفاع عن النفس وفكرة الآخر المعتدى، وهنا يمكن الحديث عن معنى كلمة «لا» فى اللا عنف، على اعتبار أنها ترفض أى تبرير للعنف، وتنزع أى شرعية عنه، وتقطع الطريق على أى صلة بالعنف الذى هو جريمة ضد الإنسانية، كما أن العنف ليس حقًا من حقوق الإنسان؛ حتى وإن بدا العنف ضروريًا، فهو ليس مشروعًا، واعتبر غاندى أن اللا عنف هو شريعة الجنس البشرى، بينما العنف هو شريعة البهائم، وكرامة الإنسان تتطلب طاعة قانون أسمى هو قوة الروح. 

 ويشترط غاندى لنجاح سياسة اللا عنف وجود عاملين، الأول: وجود إنسان مؤمن بأن اللا عنف هو سبيل حياة، فاللا عنف يتطلب وجود إنسان يمتلك فطرة إنسانية تتجاوز التقسيمات القومية والآراء التسلطية، والأيديولوجيات المتصلبة، والنظريات الانعزالية، ويتمتع بالقوة والإرادة على زرع بذور التسامح فى قلب الأخوة الإنسانية، والعامل الثانى: وجود مبادئ أخلاقية قابلة للتطبيق فى سياق التربية اللا عنفية قوامها المحبة لكل الخلائق والتضحية من أجل الإنسانية وتحمل المسئولية تجاه الكون والكائنات، وأيضًا ضرورة أن يتمتع الخصم ببقية من ضمير وحرية تمكنه فى النهاية من فتح حوار موضوعى مع الطرف الآخر. 

وظل غاندى طوال حياته يعارض العنف ويبشر بالمقاومة السلمية وبالنضال اللا عنفى وكان دائمًا يردد أن الرد على الوحشية بوحشية هو إقرار بالإفلاس الأخلاقى والفكرى، وأن النصر الناتج عن العنف هو مساوٍ للهزيمة، إذ إنه سريع الانقضاء، وأن العين بالعين هو مبدأ يحوّل البشر لمجموعة من العميان، وأينما يتواجد الحب تتواجد الحياة.