رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخلافة المصرية

مخطط إحياء القاهرة الفاطمية من أعظم مخططات الدولة المصرية فى عصرها الحالى.. يتعدى معناه إزالة التراب عن مبان رائعة والحفاظ على آثار لا تقدر قيمتها بزمن.. هناك معنى حضارى وسياسى واضح لا بد أن يعيه كل مصرى.. بغض النظر عن الخلاف المذهبى فإن الخلافة الفاطمية كانت أول خلافة تجعل من مصر عاصمة لها.. مع الفاطميين انتقلت مصر من حالة الطرف التابع لعاصمة الخلافة، سواء فى الشام أو العراق، لتصبح هى عاصمة الخلافة.. منذ أسس الفاطميون القاهرة أصبحت رقمًا لا يمكن تجاهله فى العالم الإسلامى وأصبحت دائمًا هى المركز.. رغم أن صلاح الدين الأيوبى اجتهد فى محو كل أثر للفاطميين فى مصر إلا أنه بنى على الأساس الذى وضعه الفاطميون.. ورث مصر كقاعدة للعالم الإسلامى وضخ فى عروقها الحماس فاستطاع التصدى للصليبيين وتحرير بيت المقدس.. لولا أن مصر كانت القاعدة الحضارية للأيوبيين لما استطاعوا التصدى لهذه المهمة الشاقة.. ظلت مصر هى المركز بعد رحيل الأيوبيين ومجىء المماليك.. لولا مصر التى أسسها الفاطميون لما وجد المماليك قاعدة صلبة تتصدى للتتار وتهزمهم فى عين جالوت.. إذا اتفقنا أننا نتحدث عن الفاطميين حضاريًا وليس مذهبيًا فهم خلفاء عظام تعرضوا لظلم تاريخى مركب.. من الناحية المذهبية الفاطميون شيعة من فرق مختلفة.. ناصبهم السنة العداء لأسباب مذهبية لا شأن لنا بها حين نتحدث عن الأثر الحضارى.. ارتكب صلاح الدين الأيوبى مخالفات كبيرة كى يقضى على الفاطميين حتى إنه منعهم من الزواج من بعضهم البعض.. استمر هذا الغبن التاريخى للفاطميين مع صعود التطرف الإسلامى والوهابية وتصاعد نفوذها فى مصر وغيرها.. أهال المصريون التراب على أمجادهم التاريخية استجابة للتعصب الدينى وساهموا فى محو تاريخ تميزهم وقيادتهم العالم الإسلامى سنوات طويلة.. بعيدًا عن المذهبية فإن الفاطميين ساهموا فى صياغة مفردات التميز المصرى حتى الآن.. فالقاهرة عاصمة مصر هى ثمرة جهد القائد الفاطمى جوهر الصقلى الذى وضع حجر أساسها منذ ألف وثلاثة وخمسين عامًا تقريبا فظلت عاصمة مصر والعالم الإسلامى كله وستظل إلى أبد الدهر بإذن الله، وإذا ذكرت القاهرة فلا بد أن يذكر الجامع الأزهر الذى أسسه الفاطميون وحمل اسم «الأزهر» نسبة لفاطمة الزهراء، رضى الله عنها. من تأثيرات الفاطميين أيضًا أن طريقة احتفال المصريين بأعيادهم هى الطريقة التى مارسوها أيام الفاطميين من حلوى المولد إلى حلوى «العاشورة» إلى كعك العيد وذبح الطيور فى المواسم الدينية المختلفة.. أما القاهرة الفاطمية والإضافات المملوكية عليها فهى جوهرة تاريخية تنافس بقوة مدنًا مثل إسطنبول ودمشق وغيرهما من حواضر العالم الإسلامى وإن كانت تعرضت للإهمال المتعمد سنوات طويلة لم تنجح فى محو فرادتها وتميزها وتاريخها العريق، والحق أنها مثل جوهرة سياحية ملقاة فى التراب تنتظر من يعيدها إلى قيمتها ويعرضها للعالم بهجة للناظرين.. إننى أعتقد أنه تمت إساءات متعمدة وكاذبة للخلفاء الفاطميين فى التاريخ القديم والحديث لأسباب مذهبية تتعلق بصراع المذاهب وهذا أمر لا شأن لنا به.. ليس صحيحًا أن الحاكم بأمر الله كان مجنونًا.. والفيصل هو كتابات المؤرخين والعلماء عنه «راجع كتاب الحاكم المفترى عليه لـ د. عبدالمنعم جامع» نفس الأمر ينطبق على تركيز البعض على عصور اضمحلال الدولة الفاطمية والشدة المستنصرية وتجاهل سنوات التأسيس والازدهار التى كانت مصر فيها عاصمة العالم الإسلامى ودرته المتلألئة.. تم محو التاريخ الفاطمى وتشويهه مرتين.. مرة على يد القائد صلاح الدين الأيوبى كمسلم سنى متعصب والثانية على يد الوهابيين المصريين منذ السبعينيات حتى الآن لأسباب سياسية لا تخفى على أحد.. إن مصر كانت وستظل سنية المذهب لكن قلبها كان وسيظل معلقًا بآل البيت الذين جاءوها ضيوفًا فى عصور الأمويين والعباسيين ثم جاء خلفاء منهم ينتسبون للسيدة فاطمة ليقيموا خلافتهم فى القاهرة.. من الطرائف أن رابع الخلفاء الفاطميين المعز لدين الله عندما دخل مصر ذهب لزيارته مجموعة من العلماء والأعيان وقالوا له إنهم يريدون الاطمئنان على «حسبه ونسبه» أو انتمائه لسلالة السيدة فاطمة رضى الله عنها حتى يمنحوه تأييدهم.. ولأن المعز كان قائدًا عسكريًا وسياسيًا بارعًا فقد أمسك بالسيف فى يد وبالذهب فى اليد الأخرى وقال لهم هذا حسبى.. وهذا نسبى! فصارت مثلًا من بعدها حول سيف المعز وذهبه.. وما يعنينا الآن هو العمق التاريخى والحضارى لهذه الخلافة المصرية التى تم محو تاريخها رغم أنها إحدى ركائز القوة الناعمة المصرية وإحدى ركائز السياحة الدينية والتاريخية فى مصر ويمكن أن تكون مسارًا مستقلًا للسياحة يجذب لمصر مليارات الدولارات فضلًا عن إعادة مصر لدورها كمركز دينى عريق فى العالم الإسلامى إن لم تكن هى المركز الأول من الناحية الحضارية.. إن إحدى مآسى مصر أن الخلافات السياسية دفعت البعض لإهالة التراب على حقب كاملة من التميز الحضارى لمصر استقلت فيها بنفسها وأعظمها بلا شك حقبة الخلافة الفاطمية وتليها حقبة حكم أسرة محمد على.

يجب أن نعلم أن شيخ الأزهر عبدالمجيد سليم شكل لجنة للتقريب بين المذاهب الإسلامية كانت تضم علماء من الشيعة والسنة لكن تطورات السياسة أوقفت عملها وفى نفس الإطار أفتى شيخ الأزهر محمود شلتوت عام ١٩٦٢بجواز التعبد على المذهب الشيعى الاثنا عشرى.. والمعنى أننا لسنا أوصياء على العلاقة بين العبد وربه.. وأن مصر ذات وضع مذهبى خاص يجعلها تجمع بين تقدير السنة والتعبد على المذهب السنى وبين تقدير آل البيت واحترامهم وتوقيرهم.. المطلوب أن نعيد كتابة تاريخنا الذى كتبه لنا الآخرون فى آخر خمسين عامًا واستجاب لهم البعض طمعًا فى ذهب المعز.. أو خوفًا من سيفه!.