رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فوزي فاز في النهاية.. وقائع صحفية ترصد الأحلام المبتورة لإمبراطور البهجة

محمد فوزي
محمد فوزي

مات حبيب الأطفال.. لم تجد مجلة «الشبكة» اللبنانية عنوانًا أفضل من هذا لتعبر به عن فجيعة رحيل محمد فوزى. وذلك فى عددها الصادر نهاية أكتوبر ١٩٦٦، وهو الشهر الذى شهد فى اليوم العشرين منه وفاة الرجل الذى لم يختلف اثنان على فداحة فقدانه.

قال صحفى «الشبكة»، جميل الباجورى، إن الجنازة كانت رهيبة، على حد وصفه، وامتدت لأكثر من ٤٠ كيلومترًا، وعشاقه يرددون: «إلى جنة الخلد يا فوزى»، وفى صدر المشيعين مندوب الرئيس جمال عبدالناصر والدكتور عبدالقادر حاتم ومندوبو وزراء الثقافة والإرشاد والداخلية. 

بعد هذا اليوم بسنتين، بالتمام والكمال، كتبت الكبيرة إيريس نظمى عبر «آخر ساعة» فى بابها الأشهر «ناس تحت الأضواء» مقالًا بعنوان «الأطفال.. بلا صديق».. وكأنها تؤكد عنوان «الشبكة» بأثر رجعى وبصياغة أكثر جمالية.

إيريس، كعادتها، أفرزت كتابة بديعة عن فوزى ودوره الضخم فى حياة الأطفال، وكان غرضها الأساسى من الكتابة عنه تسليط الضوء على المكان الشاغر الذى تركه الموسيقار الموهوب فى نفوس جيل سوف يحمل مستقبل الوطن على كتفيه.

ونبهت إيريس الجميع إلى أن فوزى بدأ رسالة سامية رفيعة مع الأطفال ولم يكملها، واستنكرت حقيقة أن سنتين مرتا على رحيله ولم يتصد أحد من الملحنين أو المطربين لإكمال رسالة فوزى الناقصة بفعل الموت.

كلام إيريس نظمى أبرز الغصة العالقة فى الحلوق منذ وفاة الرجل الذى مات على ما يبدو دون أن يفهم لماذا حدث معه ذلك؟.. وما زاد المرارة أن الرجل كان شعلة نشاط متقدة لا تهدأ قبل أن تخور قواه تحت وطأة إجراءات تعسفية غير مفهومة من سلطة ثورة يوليو، التى آمن بها ودعمها منذ البداية مثل الباقين.. ولسنا بصدد البحث عما حدث مع فوزى من قِبل ثورة يوليو، فقد أرغى وأزبد كثير من الأساتذة فى هذا الأمر. 

ما يهمنا هنا ما بدا لنا أن هناك مشاريع أخرى حملتها جعبة فوزى ولم تعطه الحياة القصيرة فرصة لإنجازها.. وأحلامًا تمناها ولم يحققها.. وكلما قلبت فى أوراق الصحف والمجلات الصادرة فى أواخر أيام فوزى ستجد حتمًا ظلالًا لتلك الأحلام المبتورة والأمانى المؤجلة.. ما يجعلك تظن، وبعض الظن إثم، أن الرجل هُزم فى معركته غير المتكافئة.. لكنك لو عاودت التأمل حولك وتأملت أثر الرجل فى وجدانك أنت شخصيًا لأدركت واستقر فى يقينك أن الفائز فى النهاية كان «فوزى».

مذكرات لم تكتب.. عبدالمنعم سليم: طلبها منى قبل رحيله وتحويلها إلى مسلسل إذاعى يؤديه بنفسه

عاش محمد فوزى على هذه الأرض ٤٨ عامًا فقط لا غير، وهو عمر قصير نسبيًا على ما جرى فيه من أحداث.. حياة صاخبة منذ بدايتها عندما فتح عينيه ليجد نفسه رقم ٢١ فى طابور أبناء عائلة «حبس الحو» فى كفر أبوجندى التابع لمركز قطور بالغربية.. ثم رحلة أكثر صخبًا فى قاهرة المعز الذى ندهته فيها نداهة الفن المتغلغل فى عروقه.. وصعود صاروخى للشاب الطنطاوى الطموح ليعتلى عرش الفن من كل أوجهه، طربًا وتمثيلًا وإنتاجًا.. وتصاحب تلك الرحلة الحياتية العامرة بالأحداث رحلة أخرى يعيشها الوطن والعالم حوله بالتوازى من حروب وثورة وملك يسقط ورئيس جديد.. ليزيد حياته ثراء ويغمرها بتفاصيل أكثر أصبحت مريرة فى آخر ٥ سنوات وقلبت حياته رأسًا على عقب.

حياة مثل هذه لو كان سجلها فوزى فى مذكرات يرويها بنفسه.. تخيل معى قيمة تلك المذكرات إذن؟ لكن هذا لم يحدث للأسف، وترك فوزى حياته العامرة خلفه مشاعًا لكل صاحب قلم يكتب عن حياته ما يشاء.. بعضهم يجتهد فى توثيق ما يقوله عن ذلك الموسيقار العظيم، والبعض يستسهل ويكتب ما يمليه عليه خياله الدرامى أكثر من الحقيقة فى ذاتها.. لذلك اختلط الحابل بالنابل وزادت المعلومات المغلوطة، خاصة فى علاقته مع رجال ثورة يوليو.. وتحوّل الأمر إلى فريقين، الأول يبرر والثانى يدافع، وبين هذا وذاك ضاعت حقائق كثيرة. الواقع يقول إن فوزى قد يكون أدرك ما سوف يحدث وأراد أن يكتب مذكراته بنفسه لكن القدر لم يسعفه. 

فى عدد «الكواكب» الثانى، بعد وفاة فوزى بتاريخ ٨ نوفمبر ١٩٦٦، كتب عبدالمنعم سليم، وهو كاتب ومترجم تعرف على فوزى فى رحلته العلاجية الأولى فى لندن.. عندما عرف فوزى أنه يكتب برامج درامية للبرنامج العربى فى الإذاعة البريطانية قال له: «أنا عاوز أقعد معاك شوية.. ولكن بعدين».. هنا عرف سليم أن فوزى يريده فى أمر مهم لا يريد أن يفصح عنه أمام الحاضرين لزيارته.. وفى اليوم الثانى ذهب له سليم كما يحكى هو فى المقال بالنص:

قال لى فوزى: «أنا عاوزك تكتب لى حكاية حياتى».

وعندما أراد الاستفسار أكثر.. شرح فوزى: «تقعد معايا كام قعدة وأنا أحكى لك وبعدين تكتبها أنت فى القالب اللى تختاره ونعملها تمثيلية فى الراديو».

سأله سليم بحزن: حياتك تمثيلية للراديو.

قال فوزى: «نعم وأنا ألعب فيها دورى، يعنى أنا اللى أمثل حياتى من أول ما كنت فى طنطا وغنيت فيها للظابط عشان يعتقنى».

ثم قال له فوزى: «هقولك على كل حاجة وأنت تختار الحاجات اللى تساعدك على كتابتها.. المهم تلبس الدور كويس عليا».

وعندها اندهش سليم من طلبه قائلًا: تلعب حياتك تانى؟! ثم إن حياتك لسه فيها الكثير؟!

قال فوزى: ليه لأ؟! 

وكان يظهر على فوزى الحماس الشديد لتلك الخطوة، ويفسر سليم ذلك بأنه ربما أحس فوزى بأنه قد اقترب من خط النهاية، ولأنه يحب الحياة أراد أن يعاند تلك الحقيقة التى تلوح فى الأفق ورغب فى أن يمثل حياته من جديد منذ البداية.

واتفق الاثنان بالفعل على بداية الجلسات، لكن خروجه المبكر من المستشفى ورجوعه مصر حال دون ذلك، لكن فوزى لم ينس الموضوع وأكد على سليم عندما قابله قبل العودة إلى مصر أن المشروع قائم ولا بد أن يبدأ الجلسات عندما يعود.

لكن ما حدث بعد ذلك هو دخول فوزى فى دوامة المرض الذى كان يزداد غموضًا يومًا بعد يوم، وكثرت رحلات فوزى العلاجية الطويلة وتنقل بين لندن وألمانيا وأمريكا، وفى كل مرة يمر على لندن يتفق مع كاتب مذكراته المحتمل عبدالمنعم سليم لبداية جلسات الحكى والفضفضة، لكن تجد أمور تفرضها الحالة الصحية المتردية ويصعب اللقاء.. حتى ترك فوزى لندن نهائيًا وعاد للقاهرة على ما يبدو لانعدام الأمل فى الشفاء.

سليم فى نهاية مقاله الحزين يعض أنامله من الندم على أنه لم يحارب من أجل أن ينفذ رغبة فوزى فى كتابة قصة حياته على عينيه ويمثلها بنفسه، حيث يقول سليم: «أندم وأحزن لأننى أدركت أخيرًا أننى تهاونت وأننى كنت أستطيع أن أبذل مجهودًا، ولو قليلًا، لتحقيق رغبة فوزى».

وصية لم تنفذ.. سجل أغنية بصوته لأم كلثوم وطلب بأن يصل اللحن للست 

علاقة فوزى وأم كلثوم كانت علاقة آسرة يقال فيها الكثير على الرغم من أنه لم يلحن لها أى أغنية، لكن العلاقة بدأت بإعجاب متناهٍ من طفل كفر أبوجندى الذى كان حلمه الأثير أن يقابل تلك السيدة التى كانت حينها تسحب البساط من الجميع.. ومرت الأيام وظل حلم اللقاء الفنى موجودًا داخل نفس فوزى بعد أن وهبته الحياة نجاحًا فنيًا ساحقًا على كل المستويات.. ومن ناحيتها كانت الست تكن احترامًا هائلًا لفوزى وكانت بشهادة كثيرين تتمنى أن يلحن لها، حيث كانت تريد أن تغيّر قليلًا من جلدها الفنى المصبوغ بصبغة رياض السنباطى وزكريا أحمد، وأرادت أن تجرب روحًا جديدة أخف، ولم يكن هناك أنسب من فوزى للقيام بتلك المهمة.

اقترب فعلًا اللقاء الفنى بداية الستينيات، لكن حدث الموقف الشهير الذى كان الملحن الشاب المبتدئ حينها طرفًا ثالثًا فيه.. وذهب لحن «أنساك» الأيقونى لبليغ بتصرف نبيل فائق للوصف من فوزى كما تواترت أغلب الروايات عن هذا الموقف.. لكن أهم الروايات جمعها الكاتب أشرف غريب فى كتابه الجامع «محمد فوزى.. الوثائق الخاصة»، وهو أكثر الكتب تماسكًا فى رصده لحياة فوزى الثرية بعيدًا عن البهارات التى زادت بفعل تواتر الحكايات عن الرجل، حيث حرص غريب على الالتزام بما تيسر له من مستندات وقصاصات صحفية لتأريخ ما حدث.

وبدأت مرحلة بليغ حمدى فى حياة الست فيما بدا أن دور بليغ حينها كان هو الدور الذى كانت تريد الست لفوزى أن يقوم به.. لكنه، أى فوزى، كان قد بدأ رحلته المضنية مع المرض.

لكن ما لم يُذكر، أن فوزى على الرغم من معاناته الطويلة مع المرض، لم يفقد الأمل فى تحقيق حلمه القديم الجديد بالتلحين للست.. مجلة «الشبكة» اللبنانية فى عدد ٣١ أكتوبر ١٩٦٦ فى إطار تغطيتها الجنازة الأسطورية تكشف عن وصية مجهولة لفوزى أودعها زوجته كريمة، فاتنة المعادى، حيث أكدت كريمة لمحرر «الشبكة» جميل الباجورى أنه طلب منها قبل وفاته أن تقدم التسجيل الذى سجله بصوته أثناء إقامته فى لندن لأغنية أعدها لأم كلثوم، وكان فوزى يتحدث كثيرًا عن هذا اللحن الذى اتفقت معه أم كلثوم عليه، على حد وصف كريمة، وقد قال لها إنه سيبدأ البروفات عليه بمجرد أن يسترد عافيته، لكن بالطبع لم يمهله القدر وذهب إلى ربه تاركًا تلك الوصية، التى على ما يبدو أنها لم تنفذ، لأن الواقع يقول إن أم كلثوم لم تغن من ألحان محمد فوزى.. وتلك خسارة لو تعلمون عظيمة.

حلم لم يتحقق.. فوزى قبل بداية رحلة العلاج: أستحق جائزة الدولة.. لماذا تمنعونها عنى؟

إننى أطالب بجائزة الدولة.. فأنا مؤمن بأننى أستحقها فعلًا.. بتلك الجملة أنهى فوزى حواره مع «الكواكب» قبيل رحلته العلاجية الأخيرة قبل وفاته بعام ونصف العام، وتحديدًا فى عدد ٢ مارس ١٩٦٥، وعندما سأله صحفى «الكواكب» عن سبب استحقاقه الجائزة، رد فوزى بمنتهى الثقة بنص ما كتب: «هناك أكثر من سبب.. أنا أول من قدّم أفلامًا استعراضية وأول من قدّم أفلامًا ملونة وأول من قدّم أغانى دينية (لبيك إن الحمد لك) وتسابيح، وأول من أنشأ مصنع أسطوانات واقترحت المصحف المرتل وسجلته كما سجلت خطب الرئيس على أسطوانات، ثم لحنت نشيد التحرير الجزائرى الذى كان يردده الجزائريون أثناء كفاحهم، وبعد استقلالهم أصبح السلام الوطنى».

ثم ينهى فوزى كلامه بقوله: «كل هذا الإنتاج أفتخر به.. هذا إلى جانب كثير من الأغانى الناجحة والأفكار الجديدة فى الموسيقى، وأعتقد لكل هذا أننى أستحق جائزة الدولة عن جدارة». بالطبع لا نحتاج القول إن طلب محمد فوزى وحلمه بالحصول على جائزة الدولة لم يُنفذ، الأمر الذى، بالتأكيد، ضاعف المرارة فى نفسه صراحة طلبه بهذا الشكل، ما جعل «الكواكب» تجعل العنوان الرئيسى والوحيد للحوار هو «محمد فوزى يطالب بجائزة الدولة».. هكذا دون أى مواربة أو تخفٍ مشروع خلف قلم صحفى، كما كان يفعل كثير من الفنانين.. فبالتأكيد لو همس فوزى فى أذن أحد أصدقائه فى الوسط الصحفى، وكلهم يعرفون قدره، وصارحهم بحلمه بالحصول على جائزة الدولة، كان من المؤكد أن هذا الصحفى، أيًا كان اسمه، سوف يذكرها فى مقاله فى شكل مطالبة منه هو.. لكن محمد فوزى الفلاح الصريح الذى لا يحب المواربة ولا يهوى التخفى طلبها بنفسه.. والأكثر من ذلك أنه عدد الحيثيات والأسباب التى تجعله مؤهلًا للحصول على الجائزة.. أرأيتم صفاء وجمالًا أكثر من ذلك؟.. لا أظن.